من جماليات لغتنا العربية أنها لغة دقيقة، مُرهفة الحس، تُنصت للمشاعر كما يُنصَتُ للشِّعر، وتمنح لكل إحساس اسماً يليق به، كأنها تُوقّر العواطف وتُكرم تفاصيلها لأبعد حد. فلا تكتفي بكلمة "حزن" لوصف الانكسار، بل تُفرّق بين مختلف اوجاعه، تفرق بين انواع الألم وغصّته المقيمة. ومن أبلغ ما وصفته لغتنا هي كلمة "الوجوم"، وهو ليس حزنًا يصرخ أو دمعةً تبحث عن كتف تسند عليه، بل هو حزن يُخرِس صاحبه، يُطفئ صوته، يُدخله في صمتٍ غزير كأن الروح تتلاشى ومن كثرة شحوب الروح، يأخذ الحزن يشاحب وجه صاحبه، فالوجومُ ليس حزنَ البكّائين، ولا شكوى المُنهارين بل حزن أولئك الذين بلَغوا من الألم مبلغًا جعل الكلام لا قيمة له. فالأحزان الصغيرة، يا عزيزي، ثرثارةٌ بطبعها. تحب الحكاية والدراما، تطرق الأبواب لتشتكي لهذا وذاك، تطلب مواساة. أمّا الحزن العظيم فهو أبكم. لا يحكي، لا يشكو، لا يُفسَّر. يسكن القلب كما يسكن الليلُ أرضًا بلا قمر. يُطفئ الضوء من العين، والدفءَ من الصوت، والحرارة من الجسد.
أقرب ما يكون لذلك الوصف البديع الذي أورده المنفلوطي في روايته ماجدولين، حين صوّر الغريق لا بوصفه رجلاً يصارع الماء، بل روحًا تُصارع الذكرى، لا يغرق في النهر قدر ما يغرق في الحنين، ولا يختنق من الماء بقدر ما يختنق من الأسى. في نظري المتواضع، لم يكن الغرض من هذا المشهد إيضاح شعور الغريق كحالة جسدية، بل كان المنفلوطي يُجسِّد الحزن بأفجع صوره، وجعل من الغرق استعارةً لذلك الحزن الطاغي الذي يعصف بالروح فلا يترك لها منفذًا للنجاة. وإلا، لِمَ نطق الغريق باسم محبوبته "ماجدولين"؟ لم يكن يستغيث بها من الغرق، بل كان يغرق فيها. نادى اسمها لأن قلبه كان قد سقط في هاوية أعمق، هاوية الشوق والفقد، وها هنا تكمن عبقرية المنفلوطي أنه جعل من الماء مرآةً لما في القلب، ومن الموت الجسدي تجليًّا أخيرًا لموتٍ عاطفيٍ أسبق، فوصف الغريق كالتالي "فإذا رجلٌ بين معترك الأمواج، يصارع الموت والموت يصرعه، ويغالب القضاء والقضاء يغلبه، يطفو تارة فيمد يده إلى الناس فلا يجد يدًا تمتد إليه، ويرسب أخرى حتى تنبسط فوقه صفحة النهر، فتحسبه من الهالكين. وما زال يتخبط ويتشبث، ويظهر ثم يختفي، ويتحرك ثم يسكن، حتى كَلّ ساعده، ووهنت قوته، وابيضت عيناه، واستحال أديمه، ولم يبقَ أمام أعيننا منه إلا رأس يضطرب، ويد تختلج “.
هاهو ذا يمثل الوجوم في ابهى صوره، كمن يصارع قدره، يصارع انكساره، يصارع خيبته، هذا ليس حزن، هذا ماهو ابعد واكبر من ذلك بكثير، إنما كان غريق الروح هذا يستجدي يدًا لا تأتي، ويغرق في عزلة لا يسمعه فيها أحد. تتابع الصور: "يظهر ثم يختفي، يتحرك ثم يسكن، رأس يضطرب، يد تختلج" كلها تبني صورة رجل لا يُقاوم الماء بقدر ما يُقاوم الغرق الداخلي، الانهيار النفسي، والذي تمثل في فقدان الرجاء. ثم تأتي الذروة ياعزيزي حينما قال: "فقد رأينا الغريق كأنما جن جنونه، فظن أن مخلصه يريد به شرًّا... فأفلت منه وضربه... ثم أنشب أظافره في عنقه ولفّه بساقيه لفةً خلنا أن عظامه تئن لها أنينًا.” بات الأمر واضحاً لك ياعزيزي، الغريق يُهاجم من جاء لينقذه! مشهد يفيض بالدلالة على ان الوجوم أو ماهو اكبر من الحزن حين يبلغ مداه، يتحول إلى عدوٍ لا يُميز بين يدٍ تمسك به للنجاة، ويدٍ تمسك به لتغرقه. وهنا بالضبط يصرخ الغريق باسم "ماجدولين" بالرغم من انها ليست وسيلة إنقاذ له، ولكن لأنها آخر ما تبقى من معنى لحياته، آخر الاسماء في ذاكرته، آخر وهجٍ قبل الغرق.
لهذا قال اجدادنا أن الماء كاتم الأسرار ومُستَقبِلُ الأحزان، لم أره دوماً إلا بهذا المعنى، كأن البحر او الماء إشارة رمزية لتوترنا النفسي والوجداني. فالبحر، بامتداده اللامتناهي وأمواجه المتلاطمة، يشبه حالة الإنسان الذي يغرق في مشاعره، لكنه في الوقت نفسه يحمل إمكانية الفداء والتجدد. رغم انني قرأت رواية ماجدولين قبل سنين عدة، ولكن لطالما جعلني هذا المشهد اطرح نفس السؤال دائماً. لماذا الماء او البحر؟
قد يقودنا هذا، يا عزيزي، إلى سؤال أشد جوهرية، وهو سؤال لطالما حيّر القرّاء وتأمله النقاد: لماذا اختار المنفلوطي في ترجمته لرواية ماجدولين أن يربط حزن ستيفن بالبحر، أو بالماء عمومًا؟ ما رمزية هذا الاختيار؟ وما الذي يجعل الماء المساحة الأنسب لاحتضان وجعه وتيهه؟ الحقيقة أن هذا الربط ليس عشوائيًا، بل يستند إلى تاريخ طويل في الأدب حيث يكون الماء رمزًا للحنين، للضياع، للتطهّر، وأحيانًا للموت البطيء الذي لا يُرى. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُصوّر فيها الأدب أبطاله في لحظات حزنهم العميق من خلال الماء، بل إن الماء كان وما زال رمزًا كثيف الدلالة يُستدعى في أكثر المشاهد درامية، حين يبلغ الحزن مداه، أو حين يصبح الانهيار وشيكًا. ففي رواية الناقوس الزجاجي للعظيمة سيلڤيا بلاث، نجد البطلة إستير غرينوود تدخل الحمام وتملأ حوض الاستحمام بالماء الدافئ، الذي رأته كمساحة “تطهير” بقولها "أظن أنني أشعر تجاه الحمام الساخن كما يشعر المتدينون تجاه المياه المقدسة."
أتذكر حينها أنني دونت ملاحظة بجانب هذا السطر اسمح لي ان اشاركه معك عزيزي وهو ماترجمته كالآتي “ أشعر بك عزيزتي إيستر، أنتِ خفيفةٌ كأمنيةٍ في الهواء، ثقيلةٌ كحقيقةٍ لا مفرّ منها. تطفو فوق سطح الماء ام الزمن؟، تغرقين في أعماقك. مكتملةٌ بنقصك، متوهجةٌ في صمتك، حاضرةٌ حتى في غيابك. انتِ وجعٌ لطالما استوطن النبض ولم يغادر إلا عندما غادرت أنتِ، تعثرين على الجمال لا في اتساق الأشياء، بل في عطبها. في شقوقكِ التي لا تحاول الاختباء، بل تتفتح مثل نوافذ على سماءٍ أخرى. في كسوركِ التي تعلّمتْ أن تغرق لتشهد عليكِ، في جلدكِ الذي لا يكفّ عن تمثيل أدوارٍ لا تُكتب، وفي عظامكِ التي تحفظ لون الصمت وتنساه. أنتِ لذّةٌ مُجرّدة من التبرير، تختبئين في الأحمر الفاضح مع رفيقتك دوورين، في الأزرق حين يصبح نصلًا، في الأصفر الذي يلسعكِ قبل أن يوقظكِ، في بياضٍ يأكلكِ ببطء ولا يشبع، في بنفسجٍ مشبعٍ بالكدمات، كأن كلّ ظلاله مرّت من قلب، وفي أخضرٍ يُجيد النموّ في أرضٍ مقفرة، كأن فيه ذاكرة المطر. فأخبريني، إن كان هذا الانكسار مرآتي، وهذا الاضطراب نغمي، وهذا الخراب مأواي، فهل يكون الكمال موتي… أم نفيي؟ وهل يكتمل الشيء إلا حين يغيب؟”.
لطالما تساءلت، لماذا يتألم الإنسان إلى هذا الحد؟ لماذا يشعر بثقل الحزن حتى وإن كان الحدث لا يستدعي كل هذا الانكسار؟ كنت أظن أن الألم يأتي من الخارج، من الظروف أو الأشخاص من الناس كما قال احدهم “اغلب مأآسي الناس من الناس”، لكنني وجدت الإجابة امامي مباشرة، بين ردود أفعالي وصراعاتي الخفية. أدركت ياعزيزي ان الإنسان هو من يفتح باب للألم بيديه، الإنسان وحده من يقرر ما يستحق التأثر وما لا يستحق. حين تكون المواقف كبيرة، يُقنع نفسه أنها لا تستحق، كي يحافظ على ما تبقى من قوته، حتى لا ينسف كل ما بناه من صبر وتماسك. لكن هل تسائلت معي عن النتيجة ؟ أن قلبه بات هشًّا، مستنزفًا، حتى التوافه أصبحت تسحقه، تحاصرنه في زوايا ضيقة لا يملك منها مخرجًا. قلبٌ يرزح تحت وطأة الحزن، يسير بصاحبه من يومٍ إلى آخر كأنما يجرّ ظله في دربٍ لا ينتهي. يحمل في أعماقه أوجاعًا خرساء، لم تجد منفذًا ولا أذنًا تصغي، وأمنياتٍ هشّة انكسرت قبل حتى أن تأخذ شكلها، كأنها وُئدت وهي في رحم الأمل.
تراه يضحك كثيرًا ليس من سعادته إنما لأنه يخشى أن يرى أحدهم صدعه. يتقن التماسك لأنه اعتاد أن يكون سوره الأول والأخير هو نفسه. كل من حوله يراه بخير، إلا هو… يرى نفسه تتآكل وهو صامت خارجياً. فلتعلم ياعزيزي أن الإنسان في كثير من الاحيان ياعزيزي يُضخم الأمور ، فرحه، حزنه، انتظاره، خيبته. يعيش كل شعور حتى آخره، يعطيه من قلبه أكثر مما يحتمل، وكأنه لم يعرف الإعتدال يوماً، وكأنه لم يعرف كيف يحب او يحزن “بتواضع”. ربما كان عليك ياعزيزي أن تتعلم كيف تترك بعض الأشياء تمرّ دون أن تترك ندبة عليك، أن تستوعب أن ليس كل ألم يجب أن يتحوّل إلى أزمة، وليس كل خيبة تعني النهاية. ربما النضج لا يعني أن نتوقف عن الألم، بل أن نُديره، أن نفهمه، أن نضعه في حجمه الحقيقي دون تهويل أو إنكار.
و لا بأس ايضاً ياعزيزي أن تحزن قليلًا إن كان في ذلك الحزن ما يدفعك لاتخاذ القرار الصائب. فثمّة قرارات، يا عزيزي، لا تُتّخذ إلا والقلب مثقل، والعين دامعة، لكنّها وحدها ما يصنع الفرق بين أن تظل عالقًا في الوهم، أو تمضي نحو حياة أكثر من مامضى. أحيانًا، لا يكون أمامنا سوى الطريق الأصعب، القرار الأشد قسوة، لنصل إلى واقعٍ أكثر نقاء. فالهروب يُسكّن الألم مؤقتًا، لكن المواجهة وحدها هي ما تشفيه من جذوره. الزمن ، هذا الطبيب الجبار، يُداوي كل شيء، لكنه أيضًا يستطيع أن يهدم كل شيء. يمسح آثار الوجع كما يمحو أثر البهجة. حتى الذكريات التي نحسبها خالدة، والمشاعر التي تضج في القلب بالحياة يمر عليها الوقت، فيُطفئها شيئًا فشيئًا. وتلك هي المفارقة أن الألم الذي كاد يُنهيك، يصبح مع الوقت درسًا ومُعَلِماً تتذكره دون أن يرتجف قلبك، وأن الحب الذي خضت فيه غمارك، يصبح اسمًا في حكاية ماضية، لا أكثر ولا اقل. وهذا ما ينتج عنه النضج، ننضج من الألم نفسه، حين نتعلّم أن نتكيف معه، ونُحوّله إلى إدراك: أن الحياة لا تُعطينا دائمًا ما نُحب، لكنها كثيرًا ما تُعطينا ما نحتاج.
هاكَ نصيحتي لك اليوم، يا عزيزي، تجاوَز ما آلمك، وامضِ قُدُمًا، ولا تلتفت كثيرًا إلى الخلف؛ فالتوقّف عند الجراح لا يداويها، بل يُحييها من جديد بل وُيثبِتُها لفترة أطول. و في عتابك كن رقيقًا، لا تُطِل الحديث ولا تُشعل النيران في القلوب، فالكلمة القاسية لا تُنسى، وصدقني حينما اقول لك ان اصدق الكلام لا يخرج الا عند الغضب، فأمسك نفسك، وتذكر ان من اطاع غضبه ساء أدبه وان والنظرة الجارحة تبقى. وإذا ودّعتَ مكانًا، فارفع السلام بهدوء، فمن يدري؟ قد تعود إليه يومًا بقلبٍ آخر. تناسَ، وإن لم تستطع، فتظاهر أنك تناسيت حتى يعتاد عقلك،ثم أقنع قلبك بأن النسيان ممكن، حتى يعتاد عليه. أغلق الأبواب على كلّ ما أوجعك. أوصيك، يا عزيزي، إن خاصمتَ، أن تبقى نبيلاً.
لا تُشهر سيوف العيوب والأسرار التي أودعها لك القرب، ولا تطعن من وثق بك بكلمة تُشبه الغدر. لا تفضح سرًّا سكن صدره ذات حبّ، ولا تسكب على خصومتكما سمًّا من كلماتك فتُفسد ما تبقّى من الودّ. إن بارزت، فبارز بشهامة، واحتفظ بمروءتك عالية، حتى وإن انخفض سقف العلاقة. فالحرب وإن اشتدّت لا تدوم، لكن الجراح التي تُخلّفها تدوم، تؤلم. عاتِب مرة ومرتين وثلاثة، فإن لم تجد نفعاً فغادر، واترك وراءك بابًا مواربًا قد تعود منه المودة يومًا إن شاء الله إن آن لها أن تُزهر من جديد. لا تحرق كل السفن، فبعض القلوب الطيبة تضيع الطريق إذا انقطعت كل الجسور. واحفظ كرامتك مِن أن تُعاب او تُنعت بما تكره فلا يُعرف الأصيل في بدايات الصحبة، فالبدايات كما تعلم ياعزيزي تبرق دائمًا، والكل فيها يبدو نبيلاً، مُهذبًا، كريم الطبع. لكن الأصالة،، لا تُختبر في الجو الصافِ، بل في العواصف تظهر كما يظهر ضوء الفجر: رويدًا رويدًا، حتى يملأ الأفق. تعرفه من نزاهة بطانته، ونقاء سريرته، وثبات عقله في اوقات الغضب. فلا تغترّ ببدايات مشرقة فكل أحد يعرف كيف يُجيد المظهر.
لكن الزمن كفيل بأن يُسقط الأقنعة، ويُظهر الجوهر. وتذكر دائماً أن الناس مراتب، فإن كان من تعاتبه في منزلة ذا مكانة عندك، فتخير من كلامك احسنه، أنت لست ضعيفا، لكنّ الخصم عزيزًا، أنت لست ساذجاً، بل تتغافل إكرامًا للود، وتقديرًا لما كان يومًا بينكم من صفاء. و لكن لا تُقاتل على البقاء في قلوبٍ لفظتك، ولا ترجو من مَن باعك أن يعود، لأن المروءة تُحمل كما تُحمل الأمانات،
نعطيها من يستحق، ونكفّها عن من جهل قيمتها. وإن شئت الحقيقة ياعزيزي فلا تندم، بل تعلّم ثم امضِ. فعلى المرءِ أن يُغادر الأشياء حين تلوح بوادر أفولها، لا أن ينتظر حتى تُدير له ظهرها وترحل مُثقلة بخيبته. فما لم يعُد يُضيء قلبك، لا يستحق أن يُظللك، وكل ما فقد تأثيره الجميل، وأثقل روحك بالحيرة والتعب، تخلَّ عنه قبل أن يُنهكك تمامًا، قبل أن يُسقطك أرضًا ويتركك مُنكسرًا على قارعة الانتظار.
الحياة، يا عزيزي، لا تُمهلنا كثيرًا، ولا تُعطينا وقتًا مفتوحًا للندم لأنها تمضي وستمضي، ولن تلتفت لمن تعثّر. لذا حاول أن تنجو بأقل ما لديك، حاول أن تُرمم ما تبقّى من روحك، وتُعيد ترتيب ذاتك، وتتجاوز كل ما سحب منك نورك حتى وإن كان جزءًا من ماضيك، أو قطعةً من قلبك. واعلم أن التكرار يُميت المعنى، وتذكّر دومًا أن الراحة الحقيقية لا تأتي من التعلّق بل من الاستغناء. فالاستغناء ليس جفاءً، بل نجاة، واحترام لمَن عرف قدر نفسه ولم يرضَ أن يكون أسيرًا لما لا يُشبهه. ثستتعلم ياعزيزي، أن تُسلّم الأمر، وتدع الأشياء تمضي كما تشاء، دون عتابٍ ولا انتظار.
لا تُعيد النداء لمن أدار ظهره، ولا تطرق بابًا أغلقه القدر فليس كل ما نفقده خسارة، وليس كل غيابٍ كارثة. وأكرم نفسك دائماً، فمعنى أن يُكرم الإنسان نفسه، أن يُعاملها كأغلى ما يملك، لا يُلقي بها في أي درب، ولا يُسلّمها لأي عابر. أن يُحسن الاختيار في كل شيء يمسّها، في الرفقة أحسنها، فلا يرضى إلا بصحبةٍ تُضيف، بدلاً من ان تُنقص؛ تُرفرف روحه معها بدلاً من ان تهوي. وفي الحب، أن ينتقي منه أرقاه، ذاك الذي يحول حياته إلى جنة دنيوية، وفي العمل، ألا يُرغمها على ما تُبغض، بل يسعى بها لما تُحب وتُتقن، حتى وإن طال الطريق. وفي العطاء، أن يبذل ما يستطيع، لا ما يُرهقه أو يُفرغه، وفي المنع، أن يترفّع عمّا يؤذيه، وألا يأسف على ما حجب عن نفسه من نقصان. وفي الأمل، أن لا يُغرّها بالوهم، بل يغذّيها بما يمكن بلوغه، ولو بعد حين. من يُكرم نفسه ياعزيزي، يعرف متى يقول لا.
يعرف أن الكرامة لا تُفرّط، وأن الوقت لا يُهدر، وأن القلب لا يُسلَّم لمن لا يحفظه. من يُكرم نفسه، يعزّ عليه أن يسير في طرقٍ لا تشبهه، أو يُساوم على روحه لأجل مقعد أو علاقة أو حتى وهم. واعلم دوماًإن إكرام النفس ليس ترفًا، بل إدراك ومعرفة بقيمتك كإنسان كرمه الله فوق سائر المخلوقات، فلا أحد يرفعك إن كنتَ تُسقط نفسك في مواضع لا تليق بك. إختر لنفسك ما يليق بها ولا تساوم.
والسلام، كلّ السلام، عليك ياعزيزي وعلى معشر الذين كُسرت قلوبهم. نعم صحيح لم تُسفك دماؤهم، ولكن نُزِفَت كرامتهم وهو اشد من سفك الدماء، نُزِفَت كرامتهم تحت وقع اللغة القاسية، والعبارات التي ما كان يجب أن تُقال.
مقال رائع ماشاءالله اهنيك عليه. بالمناسبة تحليلك لموقف غرق ستيفن في غاية العبقرية ماشاءالله وأقترح ان تخصص سلسلة تحليلات ادبية لكتب ونظريات فلسفية. اكثر القراء لم يروا ما رأيته في غرق ستيفن وهذا قد يجعل القراء قراء افضل بل ومفكرين اكثر ابداعية. شكراً لك مرة اخرى
سردك يُشبه يداً حنونة تمسح على قلبٍ متعب، وتترك عليه أثرًا لا يُنسى. لقد التقطتَ الألم لا كضعف، بل كفنّ من فنون الإدراك... وهذا، يا عزيزي، لا يفعله إلا من أدرك الحياة بقلبٍ مُتعب لكنه واعٍ.