في زمننا هذا، شاعت عبارة يتداولها الناس على سبيل التهكم والإستهزاء، رغم أنها دائماً ما تنتهي بإجابة واحدة فقط الا وهي عبارة: "نعيم الجهل وجحيم المعرفة." دائماً ما تجد ردود الأفعال تجاهها متشابهة: إنكار، سخرية، أو استخفاف. والنتيجة دائماً الكل يستنكر نعيم الجهل، والسبب مفهوم ومنطقي، فلا أحد يحب أن يُتهم بالجهل، لأن طبيعة النفس البشرية تأبى أن ترى نفسها ناقصة أو موصومة بما يجرح كبريائها. لكن الحقيقة التي لا مفر منها، أن الجهل له مواطن من الراحة، وأن المعرفة إذا ما أُخذت بصدقٍ ومسؤولية قد تكون عبئًا ثقيلًا على القلب والعقل، لأنها تفتح أبوابًا لم تكن تدري بوجودها، وتضعك وجهًا لوجه مع أسئلة لا إجابات سهلة لها.
وفي الواقع، فإنني أشفق على من ظنّ أنه أذكى من الجميع، يتعالى على آرائهم، ويحتقر تجاربهم، مدفوعًا بغرورٍ يتغذّى على وهم الفهم لا أنها تدل على حقيقته. يتكلم بثقة العارف، وهو في جوهره لا يملك سوى جهلٍ مُزخرف، ذلك النوع من الجهل الذي لا يُدركه صاحبه فيغدو أخطر من الجهل التقليدي. المفارقة المؤلمة أن أكثر الناس ادّعاءً للفهم، هم في الغالب أقلّهم وعيًا، لكن لأن الجهل عندهم مركّب، فإنهم لا يرون عيوبهم، بل يرون العالم قاصرًا عنهم. يعيشون في فقاعة ضخّموها بأنفاس الغرور، وينظرون للناس من علوٍ، بينما الناس يرونهم كما هم: ضجيجًا أجوف، وكلامًا بلا جوهر، وثرثرةً تُخفي ورائها خواء الفكر. وما يجهله هؤلاء أن التواضع لا يعني نقص الفهم، بل هو قرينه الحقيقي. وأن الحكيم لا يتكلم ليُثبت أنه أذكى، بل ليسأل، ويتعلم، ويُنصت لأنه يعلم أن العقل، كلما اتسع، اتسع معه إدراكه لحدوده. فالجاهل يتكلم ليقنعك، والعارف يصمت ليفهم من امامه، فهو في عملية تعليم مستمر.
إعلم يا عزيزي أننا نعيش في أكثر العصور ازدهارًا من حيث تيسّر المعرفة وسهولة الوصول إلى منابعها؛ بضغطة زر، تُفتح لك أبواب كانت في الماضي لا تُطرق إلا بجهد السنين. ومع ذلك، ما يزال الجهل حاضرًا بل متفشٍّ على نحوٍ يثير الدهشة والأسى معًا. فالجهل اليوم لم يعُد ناتجًا عن قلة المصادر، بل عن كثرة الازدحام وضياع البوصلة ومن ثم تشتت لا ينتهي. ثم إعلم ياعزيزي أن الكثير تراودهم نفس الرغبة: أن يُنعتوا بالمثقفين. أن يُنظر إليهم على أنهم أهل فكر ومعرفة. لكن الحقيقة المُرّة أن هذه الرغبة، لدى البعض، لا تنبع من شغف بالعلم نفسه، بل من شهوة الظهور أمام الناس، ومن رغبة دفينة في نيل الإعجاب أكثر من نيل الفهم. فيغدوا الناس لا يطلبون العلم ليُنيروا به عقولهم، بل ليصنعوا منه زينةً يُعلّقونها على صدورهم في المجالس.
يتحدثون ليبهروا بدلاً من أن يضيفوا. يستعرضون ما قرأوه لأنهم ظنوا أن الثقافة عرضٌ يُقدَّم بدلاً من أن تكون رحلة تُعاش بتجاربها وبتساؤلاها. وهنا يكمن الفخ الحقيقي؛ فالعلم الحقيقي لا يُقاس بعدد الكتب التي تُقتنى، ولا بعدد الاقتباسات التي تُردّد، بل بقدرتك على التفكير الحر على طرح الأسئلة التي تنير المصابيح الخافتة في عقولنا قبل أن تبنّي الأجوبة، وبتواضعك حين تعلم، وصمتك حين لا تعلم وبعلمك انك تجهل الكثير. إن المثقف الحقيقي ياعزيزي لا يطلب العلم ليعلو به على الناس، بل ليقوّم به نفسه أولًا، ولأن داخله لا يحتمل أن يظل في الظلام حتى لو لم يصفّق له أحد.
ولذلك أرفض رفضاً قاطعاً ان يُنسب الجحيم إلى العلم، فبعثة الرسول ﷺ عندما بُعث للناس، بُعث رحمةً وعلماً ليخرج الناس من الظلمات الى النور، لم تعرف الدنيا، ولم تشهد البشرية على امتداد تاريخها مُعلِّمًا أعظم أثرًا، ولا مُربّيًا أكمل خُلقًا، من نبيّنا محمد ﷺ. كان أميًّا لا يقرأ المكتوب، ولا يخطّ بالقلم كتابًا، ومع ذلك، آتاه الله بلاغةً تخشع لها الألسن، ومنطقًا يرقى بالفهم، فكان ﷺ، وهو الذي لم يجلس إلى معلّم، ولم ينهل من كتب، معلّمَ البشرية الأول، نورًا يُهتدى به، وهدايةً تمشي على الأرض.
إذ لم يتعلّم من بشر، ولم ينقل عن سطر، لكن علمه فاض فهامت به عقول العلماء، ونهلت من معين قوله أجيال الأدباء، وتعلّمت منه الأمة كيف تُحاور، وتفكّر، وتُحسن البيان. أذهل فصحاء العرب، وأربك شعراء الجاهلية، ووقف أمام فكره فحول المفكرين، عاجزين عن الإتيان بمثله أو بمثقال ذرةٍ من روحه. جاء بكلام ليس من صنعة البشر، لا هو شعر، ولا نثر، بل هو وحيٌ لا يُشبهه قول. فكان من معجزاته أنه أُمْيّ ملأ الأرض علمًا. وكل علم بعده فهو مبني على علمه كما قالت احد القصائد في مطلعها "النبي الأُمْي عَلَّمَ العُلَمَاءْ".
لم يكن الجهل يومًا نعيمًا، لا في زمنٍ مضى ولا في عصرٍ حاضر، بل كان وسيظل أحد أسباب الانطفاء الداخلي والضياع الخارجي. والجهل لا يقتصر على عدم المعرفة، بل له وجوهٌ متعددة؛ فقد ترى عالمًا في تخصصه، لكنه يجهل الأدب أو الحكمة أو الإنصاف، فيكون جهله هذا حجابًا عن النفع الحقيقي، ويصير علمه حينها عبئًا عليه لا بركة فيه. فليس كل من أوتي علمًا نُفع به.
لهذا أسأل الله لي ولك، يا عزيزي، أن يعلّمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علّمنا، وأن يزيدنا علمًا، ويجعلنا من الهداة المهتدين، الذين يسيرون بنور البصيرة لا بترديد المعلومة. وفيما يلي، سنتأمل سويًّا معنى العلم النافع، لأن كثيرًا من الناس قد يتخصص في علمٍ من العلوم، أو يُقبل على بابٍ من أبواب المعرفة، ويظن أنه بذلك قد ملك نفعًا مطلقًا. لكن الحقيقة أكثر من ذلك؛ فليس كل علمٍ نافع، وليس نافعًا بالضرورة لكل أحد، بل إن نفع العلم مشروط بغاياته، وأثره، وبما يحدثه في النفس من تقوى وتواضع وتزكية.
الجهل، يا عزيزي، ليس أن تجهل الحقيقة بل أن تظن أنك أدركتها كاملة، فلا تسأل، ولا تُراجع، ولا تُصغي. الجهل ليس في فراغ العقل، بل قد يكون في امتلائه بالوهم. فالذي لا يعلم قد يتعلم، أما من توهّم أنه يعلم، فقد أغلق على نفسه أبواب التعلّم. الجاهل لا يخاف من الظلام، بل في الواقع لايدري انه ظلام، قد يخيل له انه نوراً، وهو ما وُصف في القرآن الكريم بقوله تعالى ( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ). لأن الجاهل في حقيقة الامر لا يرى في الظلمات خطرًا، ولا يدرك ما قد يختبئ خلف ستاره. بينما العارف، وحده، من يخشى العتمة لأنه يعرف أن في الظلام أشياء لا تُرى، لكنها موجودة، ويعلم أن إدراك المجهول أشدّ وطأة من الجهل به.
أَعلمُ جيداً ياعزيزي أننا نعيش في زمنٍ لا يُروَّج فيه للعلم بل لوهم المعرفة، وشتان مابينهما. الجهل له وجوه كثيرة: منه ما ينام في عزلة المتواضعين، ومنْه ما يصرخ في شوارع الشهرة، ومنْه ما يتزيّن بثوب الحكمة، ويتحدث بلسان الواثق الذي لا يعرف الشك ولا يعترف بحدوده. وهذا هو أخطرها لأنه يُضلّ، ويُغري، ويُغلق أبواب النور بإسم النور. فلا تخف من أن تُقال لك عبارة: "أنت لا تعرف"، ففي هذا الاعتراف بذرة علمٍ حقيقي، لكن احذر أن تمضي عمرك كله تردّد ما قاله غيرك، دون أن تتساءل: هل هذا ما أؤمن به فعلاً؟ أم ما لُقّنته دون أن أشعر؟ هل هذه أفكاري أم صدى لما أرادوه أن أصدّقه؟ ففي نهاية المطاف التحرّر من الجهل لا يبدأ حين تعرف بل حين تشكّ فيما تظنه معرفة.
وكما ذكرنا ياعزيزي أن الجهل له عدة أوجه، فثمة ثلاثة أوجهٍ رئيسة للعلم، لا يكتمل وعي الإنسان إلا باستيعابها، أُولى هذه الأوجه علمٌ تعرفه وتعلمته. وهو ذلك العلم الذي تعلمته، سواء من تجارب الحياة وعلومها، أو من الكتب والمحاضرات وغيرها، وهذا العلم ليس تكديسًا ذهنيًا بل هو أمانة لديك. فإن لم يثمر في سلوكك، ويظهر في أثرك، فوجوده فيك كعدمه. ولذلك هو علمٌ يسكنك، يذكّرك بما ينبغي، ويطالبك بالصدق مع ما عرفت. لا يطلب منك الكمال، لكن يطلب منك ألا تتنكر له.
وثاني أوجه العلم هو علمٌ لا تعرفه بعد. وهو ما لم تصله يدك بعد، ولم يمرّ عليك، ولم يخطر في بالك. هذا وجه الجهل البريء، الذي لا يُلام صاحبه، لكنه يُسأل: هل تسعى؟ هل تسأل؟ هل تفتح قلبك لتلك المساحات المجهولة التي قد تغيّرك إن عرفتها؟ فهو في بسيط القول انه بابٌ لم يُطرق بعد، لكنه ينتظر صاحبه. ومتى ما وعيت بوجود هذا الباب، بدأت أولى خُطى التعلم الحقيقي.
وثالث اوجه العلم هو علمٌ تعرف أنك تجهله، ولا تعرف كيف تصل إليه. وهو ما يُلخص في التجربة التي تقودك الى الحكمة، والإدراك، والحدس. على سبيل المثال لا الحصر، أنت تعلم تمامًا أن هناك "طريقة مثلى" للاختيار بين أمرين، تعلم أنك بحاجة إلى بصيرة، حكمة، قدرة على كبح العواطف، وزن الأمور بدقة. لكن، هل يوجد علمٌ واضح ومحدد يعلمك كيف تعرف أنك اخترت الاختيار الصحيح في تلك اللحظة؟
وهذا ما يدفعنا ياعزيزي إلى التأمل في أنواع العلوم، والتمييز بين ما وصفه السلف بـ"العلم النافع"، وبين ما قيل عنه إنه "علم لا ينفع"، بل قد يضر صاحبه إن لم يُحصّنه بالنية الصادقة والتواضع وحسن المقصد. فالعلم النافع هو الذي يُورث الخشية، كما قال الله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"، وهو الذي يقرّب القلب من خالقه، وينعكس أثره في سلوك الإنسان وتعاملاته. فليس المقصود بكثرة المعلومات ولا بالتفوق في التخصصات فقط، بل المقصود هو أثر هذا العلم: هل يصلح به القلب؟ هل يثمر عملاً صالحًا؟ هل ينفع به الناس؟ هل يرفع الجهل أم يزيد الغرور؟ أما العلم الذي لا ينفع، فهو ذاك الذي يُطلب للرياء، أو للجدال العقيم، أو لمجرد التفاخر والتسلط على الناس، او حتى علم مقصده ضرر للناس، مثل السحر والشعوذة.
وهو كل علمٍ لا يهذب النفس، ولا يدفع بصاحبه إلى العمل الصالح، ولا يعمر به الأرض ولا يبني به الإنسان. بل قد يكون أداة في يد الجاهل المغتر، يزيده بعدًا عن الحكمة، وإن ظن أنه ارتقى. ولهذا، كان النبي ﷺ يستعيذ في دعائه من "علم لا ينفع"، فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسمع". وفي ذلك إشارة بالغة إلى أن العلم، إذا لم يُثمر أثرًا في القلب والجوارح، فقد يتحول إلى حجة على صاحبه لا له، ويكون وبالًا بدل أن يكون نورًا.
قال الإمام الغزالي رحمه الله إن العلم النافع هو الذي يورثك خشية الله، ويزيدك بصيرةً بعيوب نفسك، ويعينك على عبادة ربك على الوجه الذي يُرضيه، ويُفتح لك به باب معرفة آفات الأعمال حتى تتوقاها، كما يُنير لك طريق النجاة من مكايد الشيطان وتلبيساته، خاصة ما يُلَبِّسه على علماء السوء، الذين خلطوا الدين بالدنيا، فطلبوا بها الجاه والمنزلة، حتى أصبحت علومهم وسيلة لطلب التمجيد لا للتعبد، فاستحقوا بذلك مقت الله وسخطه.
وقد أشار الغزالي إلى أن هؤلاء انشغلوا عن جوهر العلم وغاية العبادة، فصاروا يتنافسون في الجدل والمراء، ويغلب عليهم حب الظهور والمباهاة، حتى سقطوا من عين الله وهم يظنون أنهم في علّيين. فالعلم الذي لا يردع النفس عن غرورها، ولا يهذب الطبع، ولا يطهر القلب من الرياء، هو علم قد تحول إلى فتنة. وبناء على هذا، يمكننا أن نقول: كل علم يفتح لك نافذة على نفسك، فيجعلك تبصر مواضع النقص والضعف فيها، ويحفزك إلى إصلاحها، فهو علم نافع. لأنه يقودك من معرفة الذات إلى معرفة ربك، ومن تهذيب النفس إلى تعظيم الخالق. والعلم الذي يُصغّرك في عين نفسك، ويعظّم في قلبك شأن الله، هو عين الهداية.
وإذا تأملت في حال سيدنا إبراهيم عليه السلام، حينما نظر إلى الكوكب فقال: "هذا ربي" ثم لما أفَل قال: "لا أُحب الآفلين"، ثم قال عن الشمس: "هذا ربي، هذا أكبر"، فإنك تدرك أن العلم النافع هو ما يجعلك تُبصر بعين البصيرة أن الله أكبر من كل شيء، وأنك أنت لا شيء إن لم تعرف ربك، ولم تُخضع له نفسك. العلم إذن، ليس مجرد تراكم للمفاهيم أو التخصصات، ولكن في حقيقته هو نورٌ يكشف لك من أنت، وإلى أين تمضي، ومن هو ربك، وكيف تعبده بحق. ومتى فقد العلم هذا النور، صار ظلمة، حتى وإن تزيّن بألق الألفاظ وبريق الشهادات.
إعلم يا عزيزي أن بناءً على ما سبق، فأكمل العلوم وأشرفها هو العلم الشرعي، إذ به تتهذب النفس، ويستنير القلب، ويتقرب العبد إلى ربه. والعلم الشرعي ليس حكرًا على من تخصص فيه أكاديميًا، بل هو متاحٌ لكل راغب، ولكل من طرق بابه بنيّة صادقة وهمةٍ خالصة. فالله تعالى لم يجعل سبيل معرفته حكرًا على حملة الشهادات، بل جعله مفتوحًا لمن أقبل بقلبه قبل عقله، وسعى للعلم لا رياءً ولا سمعةً بل تقربًا وخشية. وإن لم تتخصص في العلم الشرعي، فاجعل له نصيبًا ثابتًا من وقتك، ولو يسيرًا.
إقرأ في تفسير القرآن، أو استمع إلى درس في السيرة، أو تدبّر حديثًا نبوياً كل أسبوع. لا تحتقرن القليل، فإن القليل المستمر خير من الكثير المنقطع. فكما أن الجسد لا يستقيم بغير غذاء، كذلك القلب لا يستقيم بغير علمٍ يُذكّره بخالقه، ويفتح له أبواب التأمل والخشوع، ويعرّفه بعيوبه فيسعى لإصلاحها. العلم الشرعي ولو على قدر بسيط يصير زادًا يوميًا، وسندًا في المواقف، وبصيرة في الحيرة، ونورًا في الظلمة.
والأهم أنه يحيي علاقة العبد بربه، فيصير العلم حينها عبادة، وتتحول المعرفة إلى خشية، كما قال الله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ". ولذلك انصحك يا عزيزي أن تجعل من العلم الشرعي جزءًا لا يتجزأ من مسيرتك في الحياة، يُغذّي نيتك، ويُطهّر قلبك، ويقوّي صلتك بالله، مهما كانت مهنتك أو تخصصك، فبغيره تبقى الأرواح جائعة وإن شبعت العقول. إجعل لك وردًا من الكتب الدينية التي تغذّي قلبك وتبصّرك بطريقك إلى الله، خصّص لنفسك وقتًا يوميًا أو أسبوعيًا تقرأ فيه ما ينفعك من كتب السُّنة، والتفسير، وأعمال القلوب، وتاريخ الأنبياء، وكتب الأخلاق والسلوك، فابدأ بما هو سهل وميسر، كرياض الصالحين للإمام النووي، الذي يجمع أحاديث في الأخلاق والعبادات والسلوك، أو مختصر تفسير ابن كثير لتفهم كلام الله بعمق وتدبّر.
وإن أردت التدرّج في تزكية النفس، فاقرأ تهذيب السلوك كمدارج السالكين لابن القيم، ففيها من النور والهداية ما يجعل قلبك لينًا، وعقلك صاحيًا، وبصيرتك نافذة.والكتب في هذا النحو كثيرة وجميلة، وقد تجد فيها من الإجابات ما يُرضي فضولك ويُطمئن قلبك، خاصة في ما يتعلّق بأعماق النفس وأسرار الأرواح. على سبيل المثال كتاب الروح لابن القيم، وهو كتاب يطرح تساؤلات شغلت قلوب الكثيرين: هل يشعر الميت بمن زاره؟ هل تصل إليه سلاماتنا ودعواتنا؟ لماذا نراهم في أحلامنا بعد أن يغيبوا عنّا بالجسد؟ وكيف تكون أرواحهم بعد الموت؟ الخ.
إعلم أيضًا يا عزيزي أن العارف بحق هو من يُدرك أن كل العلوم لها قيمتها وأهميتها، حتى وإن بدت في ظاهرها بسيطة أو "غير مطلوبة" في موازين سوق العمل. فالحكمة لا تُقاس بما يُدرُّ من ربح، ولا العلم يُقاس فقط بما يُطلب في السوق. إن بعض العلوم التي يُنظر إليها اليوم على أنها غير مجدية أو لا مستقبل لها، قد تكون في جوهرها هي ما يُصلح فكر الإنسان أو يوسّع أفقه أو يُهذّب روحه.
فليس كل ما لا يدر مالًا يُعدّ غير نافع، وليس كل ما يحقق وظيفة يُعدّ عِلمًا راقيًا. كما ان سوق العمل غالباً ما يكون توجهه اقتصادياً وانت توجهك أخلاقياً، فكرياً، ثم مادياً. إن سوق العمل مهما بدا واسعًا لا يُمثل الحقيقة الكاملة، فهو يتغير بتغير الزمن والسياسات والاقتصاد، لكنه لا يضع معيارًا مطلقًا لما هو ضروري للإنسان ككائن يسعى للمعرفة والنضج، لذلك، يا عزيزي، لا تستهن أبدًا بما تخصصت فيه، حتى وإن لم يكن في نظر البعض "مجديًا" أو "مطلوبًا" في سوق العمل. فالعلم الذي تهواه وتبذل فيه وقتك وجهدك لا يضيع سدى، بل يُشكّل جزءًا من هويتك وعمقك الإنساني، ويُهذب نظرتك للعالم.
ليس كل ما هو نافع يُترجم إلى وظيفة، وليس كل وظيفة تعني أنك سلكت الطريق الصحيح معرفيًا أو روحيًا. فكم من إنسان تخصص في علوم قال المجتمع عنها انها تبدو "هامشية"، فإذا بها تمنحه أدوات للفهم والتحليل والتعبير لا يملكها كثير ممن يُقبل عليهم السوق بلهفة! فكل علم يسهم في عمران الحياة، أو خدمة الخلق، أو تهذيب النفس، له وزنه ومكانته. فالعاقل لا يُزاحم بين العلوم، بل يعرف أن لكل علم مجاله ووظيفته، وأن الله سَخّر بعضنا لبعض، فكما نحتاج إلى الطبيب في مرض الجسد، نحتاج إلى العالم في مرض القلب، ونحتاج إلى المهندس في بناء الأرض، والمعلّم في بناء الإنسان.
ولذلك فإن ازدراء أي علم لمجرد أنه لا يتصل بمجالك أو لا يثير فيك شغفاً هو نوع من الغرور الخفي والجعل الظاهري، لأن الله ما بثّ في الكون هذا التنوع إلا لحكمة، وما أعطى كل امرئ موهبة إلا ليُسهم بها في خدمة الحياة وعمارة الأرض.
تأمل مثلاً في من يظن أن علم اللغة غير مهم لأنه لا ينقذ الأرواح، فإذا به يتجاهل أن اللغة هي وعاء الفكر، وأن العلماء ما نقلوا معارفهم إلا بها، وأن فهمك لكتاب الله وسنة نبيه لا يتم إلا بها. وكذلك الحال في كل علم: الرياضيات، الفلك، التاريخ، الجغرافيا، الاقتصاد، الطب، الفنون، كلها أوجه من أوجه المعرفة التي إن استُثمرت بإخلاص، صارت بابًا إلى الله. فالعارف بالله لا يحتقر علمًا، بل يحتقر الجهل. ولا يزهد في معرفة، بل يزهد في الغرور المصاحب لها إن لم تهذب النفس. إنما يزن كل علم بميزان النية والغاية، بدلاً من ميزان الصورة الظاهرة فقط.
نصيحتي اليوم لك يا عزيزي، والتي أختتم بها هذا المقال، أن تجعل من نفسك إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالإنسان بعقله وقلبه وفكره. فاجعل من قلبك رقةً تتجاوز بها نفسك وسَلِ الله ان يرقق قلبك فقد تكون مفتاح نجاتك، رقة تتجاوز بها حدود الأنانية والحقد والغرور، وتعانق بها مشاعر الرحمة والتسامح.
واجعل من عقلك نورًا يهتدي به في دروب الحياة، يفكر بعمق وروية وإختلاف على حق ولذلك ادع الله دائماً و قل: "اللهم أرني الحق حقًا وارزقني اتباعه، وارني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه"، فليس كل من أدرك الحق عرف كيف يلتزم به، وليس كل من رأى الباطل وفقه الله في تجنبه. فكم من عاقل يعلم ما هو الحق ولكنه يعجز عن السير في دربه بسبب ضعف النفس أو شدة الإغراءات، وكم من جاهل تصادفه في طريق الباطل لكنه لا يستطيع الانفصال عنه بسهولة. لذا، نحتاج دوماً إلى توفيق الله وهدايته، التي تقوينا على الثبات، وتجعلنا نتمسك بالحق رغم كل الصعاب، ونتجنب الباطل مهما كان مغريًا أو سهلاً. أما فكرك فاجعله دائمًا متفتحًا، يسعى إلى التعلّم المستمر، وينقد الأفكار بموضوعية، ويُبدع في خلق حلول جديدة.
الإنسان الحقيقي هو من يوازن بين هذه العناصر، فلا يغفل عن مشاعره ولا يغرق في التفكير فقط، بل يجمع بين العقل والقلب والفكر ليصنع حياةً متكاملة ذات معنى. وإحرص ان لا تشتتك كثرة المعارف والعلوم فلا تصيب منها شيئاً، ولنا مقال بمشيئة الله في هذا الشأن. فاجعل من نفسك إنسانًا يحمل في قلبه محبةً وعطفًا، وفي عقله فهماً ورزانة، وفي فكره سعة أفق وإبداعًا، لتكون بذلك قد أسهمت في بناء عالم أفضل يبدأ بك وبداخلك. تحلى ياعزيزي دائماً بأدب الإنصات،وهو أجمل الأخلاق التي تُجلى بها قيمة الإنسان وعمق احترامه للآخرين. قال عطاء بن أبي رباح: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن تلده أمه."
وهذا من تواضع العلماء مهما كان يعرف وبعلم مايحدثه به غيره، ينصت، فالقيمة ليست في جديد الكلام فقط، بل في تقدير المتحدث واحترامه. وهو كما قال احدهم "وتراه يُصغي للحديث بقلبه وبسمعه ولعله أدرى به." فالإنصات الحقيقي هو أن يسمع الإنسان بكيانه كله؛ بقلبه الذي يعي ويفهم، وبسماعه الذي يلتقط المعاني، حتى وإن كان المستمع أعلم بالمضمون، فهو يعامل المتحدث بكل احترام واهتمام.
وإن رزقك الله علماً لتنصح به غيرك فانصحه سراً لا علانية، فإنك إن نصحته علانية قد فضحته بدلاً من ان تكون نصحته، واعلم أن الإنسان يُكرَّم حتى في خطئه، ويُرشَد بروح الإصلاح لا بعقلية التوبيخ أو الإقصاء. فالأخطاء ليست فضيحة يجب التستُّر عليها ولا عارًا يستوجب الإذلال، بل هي وقفة تعليمية، وإمكانية فعلية للنضج والتطور. من تعلم بحقّ، أصلح برفق، ونبّه بلين، لأنه يدرك أن أعظم وسائل التغيير هي تلك التي تُبقي للإنسان كرامته، وتدعوه للتحسّن من داخله لا بدافع الخوف أو الشعور بالدونية. و لا تستصغرنّ يا عزيزي أيًّا من صنوفِ العلوم، فإن العارفَ بحقّ يدرك أن لكل علمٍ مقامَه، ولكل معرفةٍ أثرًا في خدمة الإنسان ما دامت لا تُفسد ولا تضر. فالعلم، وإن بدا بسيطًا أو بعيدًا عن اهتماماتك، قد يكون لبنةً في صرحٍ إنسانيٍّ أكبر، لا تراهُ الآن، لكنه يُبنى بك وبغيرك. فكم من معرفةٍ ظنّها الناس تافهة، فإذا بها تُنقذ حياة، أو تُلهم عقلًا، أو تُرقّي مجتمعًا. والعاقل من يُنصت لما يجهل، لا من يحتقره.
مقال رائع اللهم بارك ، زادك الله علمًا ونفع بك. والحقيقة أن أي علم لا يُعيدك إلى الله عز وجل، فهو علم لا يُعوَّل عليه، لأن الحكمة تقتضي أن يقودك كل علم إلى إدراك عظمة الله في هذا الكون. إذا سمحت لي، لديّ تساؤل بسيط ورد في الحديث الشريف (من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)، فهل المقصود هنا هو العلم الشرعي فقط، أم يشمل سائر العلوم التي تنفع الناس؟ وكيف للإنسان أن يُوفَّق لنشر العلم دون أن يقع في دائرة الغرور؟ خصوصًا أن الثقة بالنفس قد تكون من تمام التوكل على الله، ومن الشعور بأنك إنما تنشر ما علمك الله إياه لنفع الناس، لا للتفاخر أو الاستعلاء من باب شكر النعمة . أحيانًا، يقع الإنسان في فخّ التقليل من نفسه حتى لا يُتهم بالغرور، فيمتنع عن الرد أو تصحيح المفاهيم الخاطئة، رغم أن التبيين والنصيحة قد تكون سببًا في هداية أحدهم أو تصحيح خطأ في نفسه. وقد لاحظنا في هذا الزمن أن الجاهل (ولا أستثني نفسي )يتكلم بثقة وفخر، بينما العالِم يتردد من باب التواضع، وربما خشية من أن يُفهم كلامه على غير وجهه، أو يُحسب عليه ، فهل ترى أن انتشار الجهل والمفاهيم المغلوطة له علاقة بصمت أهل العلم والمثقفين؟ وهل يرتبط ذلك بضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيضًا؟
جزاك الله خير كلام جميل 🙏🏻🤍