الكتابة بلا أسرار مزيفة؛ كيف وماذا تكتب؟ وما الذي لا يخبرك به أي كاتب أو ورشة كتابة
سلسلة كيف تَكتُب: تمهيد لعالم الكتابة (مقدمة)
السادسة صباحًا في المدينة المنوّرة. هدوءٌ غامرٌ يكسو المكان، هدوءٌ نادرٌ لم أعتده يومًا؛ فلعلّني مأخوذٌ بالذاكرة إلى صخب الناس وهم يتزاحمون في الطرقات نحو مدارسهم، ضجيجٌ كان يملأ كلَّ فراغ. الآن، أجلسُ وحيدًا في غرفتي، والعتمةُ ما تزال متشبّثة بالجدران، لا يبدّدها سوى أول خيوط الشمس التي تتسلّل الى نافذتي المنفتحة على مصراعيها، ليلها كنهارها. هذا الوقت تحديدًا هو الأقرب إلى قلبي؛ لحظةُ الفجر وقد بدأ يتنازل عن صلابته، ووهج الأصيل يلوّح من بعيد كأنّه وعدٌ مع كل إشراقة بالطمأنينة. كل شرٍ قد ينتهي مع بداية كل صباح.
بلغ الصمتُ حدًّا جعل طقطقة أصابعي على لوحة المفاتيح تبدو كطلقةٍ تشقّ جناح الظلمة، وترتدّ أصداؤها بين الجدران. وفي ذلك السكون المهيب، شعرتُ أنّ المدينة كلّها تنصت إليّ، كأنها تؤمّن على ما أكتب، أو كأنها تَختبر صدق الكلمات التي أسكبها في هذا الفجر الأصيل.
يتسلّل إلى غرفتي نَسيمٌ عليل، أُقسم أنّه لا يُشبه أيّ نَسيمٍ آخر في الدنيا. يحملُ في ورِقاته شيئًا من رائحة غرفتي؛ مزيجٌ غريبٌ بين عَبق المسك، ووهجُ خشبٍ محترِق، تعبقُ منه نكهةُ قهوةٍ تمتزجُ بشيءٍ من طِيبِ هذه الأرض المباركة، أرضِ تمرِ العجوة. مزيج لا يُشبه عطرًا، بل أقرب ما يكون إلى سرٍّ كونيٍّ تُهديه هذه الأرض لي في أجمل أوقاتها.
وفي هذه اللحظة، يتداخل الحِسُّ بالذاكرة، فأشعر كأنني أجلسُ في منتصف طريقٍ بين الأرض والسماء، بين الحاضر والماضي. كلُّ شيءٍ حولي يَسكن، فيما تنهض داخلي حياةٌ كاملة لا يراها أحد سواي. وهكذا، بينما العالم غارق في نوم عميق، أظل أنا مستيقظاً بين جدران هذه الغرفة، أراقب كيف يمكن للصمت أن يكشف عن أكثر مشاعر الإنسان صدقاً، ولعلّ هدوء المدينة في هذا الوقت بالذات هو ما كنت أحتاجه لأكتب مع نفسي من جديد.
أراني أنظر إلى النجوم والقمر، وأشاهد أول خيوط الشمس تتسلل بين السحاب، في مشهد يجمع بين السكون والضياء، وأستنشق من نافذتي رائحة المدينة، تلك الرائحة الفريدة التي لا توجد في أي مكان آخر، رائحة تحمل بين ثناياها حياة الناس، أصواتهم، خطواتهم، وآمالهم. السماء تتكوّن شيئًا فشيئًا، واليوم يبدأ، بينما أنا غارق في عوالم داخلي، حيث يقيم داخلي اثنان منفصلان، كل منهما يحمل صوتًا مختلفًا، الأول يخبرني أن الطموح يتجدد مع كل يوم، وأن عليّ السعي مادمت حياً، أما الآخر فيهمس في روحي أن لا تشغل بالك بما هو آتٍ، فالله قادر على أن ينير الدرب أمامك، سلّم نفسك له فقط، بلا خطط، بلا حواجز، بلا قيود. كن كالريشة التي تحلق بها الهواء في أقصى السماء.
كلُّ ما سبقت كتابتُه لم يكن سوى جوابٍ عن سؤالٍ واحد ألا وهو ماذا تكتب ياعزيزي؟ ولكي أُقدّم لك مثالًا حيًّا يا عزيزي، على أنّ الكتابة لا تنضبُ ولا تعرفُ النهاية؛ كتبت النص السابق، فالكتابة تتوقف بك عند كلِّ تفصيلةٍ في الزمن، مهما خُيّل إليك أنّه لا شيء يستحق الذكر، فقد كتبت الأسطر الماضية وهي عبارة عن مشهد لا يتجاوز الدقيقة، و أزعم أنه لا زال في جُعبتي الكثير وما زلتُ قادرًا على الاسترسال في هذا النسق بمشيئة الله، مكتفيًا فقط بوصف لحظةٍ لا تتجاوز الدقيقة.
لحظةٌ خاطفة، قد تمرُّ على الكثيرين فلا تُحرّك فيهم ساكناً، ولا تُسجَّل في ذاكرتهم بملامحها الهشّة. لكن في عين المُحب للكتابة ولا أُسمي نفسي كاتباً ابداً لأنني لست كذلك، فتلك اللحظةُ بذرةٌ قادرةٌ على أن تُثمر نصًّا طويلًا، وربما حياةً كاملةً من المعاني. وهنا يكمن سرُّ الكتابة وهي أن تُخلّد ما يذوب في عيون الآخرين، وأن تمنح الصمتَ صوتًا والزمنَ ملامحًا لا يزول أثره.
ولكي تكون كاتبًا بارعًا، فلا بدّ أن تكون قارئًا شرهاً وواعياً، قارئًا يتجاوز الحدود الضيقة التي حاول الناس من حوله رسمها له. قارئ لا يشتري كتاباً ليصوره ويصور إقتباساته فقط، القارئ الذي يقبع في زاوية مكانه، ولا يتجاوز الكتب التي تُكرّس معتقداته الموروثة، ولا يرفع نظره عن ثقافة محيطه المحدود، لا يمكن أن يكون نزيهًا في أحكامه، بل ستجده غالبًا متعصبًا لأفكاره، عنصريًا في رؤيته، ومولعًا بتقديس نفسه أكثر من بحثه عن الحقيقة.
أما الكاتب الحقيقي يا عزيزي، فهو ليس مجرد ابن بيئته، بل هو ابن الإنسانية بأسرها؛ كائن يستمع لأصوات الشعوب المختلفة، ويغترف من ينابيع معرفتها المتعددة. هو من يقرأ تاريخ الحضارات، يتأمل فلسفاتها، ويغوص في آدابها، حتى إذا كَتَبَ، كانت كلماته مرآة لأكثر من روح، وصدى لأكثر من عالَم، لغة تُحاكي القلوب قبل العقول، وتفتح النوافذ على عوالم لم تطأها قدماه.
وقد وجدت الكثير هنا يُحاول الكتابة فيكتب مقالاً هنا وهناك، ومن هنا جاء دوري اليوم يا عزيزي، وهو أن أنقل لك تجربتي مع الكتابة، لعلي أساعدك وأخذ بيدك ولو بالقليل، ولعلّي في هذه المقالة أتمكّن من وضع بين يديك نصائحٍ قد تكون لك خير دليل لتبدأ بالكتابة. نصائح، إذا تفكرت بها وطبقتها وطوّرتها، ستعود عليك بالفائدة ليس فقط في فن الكتابة، بل قد تمتد في فهمك للعالم من حولك، ولروحك التي تتشكل مع كل كلمة تكتبها.
إعلم يا عزيزي أن غايتي الأولى هي الفائدة، وليس لي في هذا مقام ادّعاء أو تباهٍ. لا أزعم أنني أكتب بإتقان، بل إنني ما زلتُ في طريق التحسين المستمر، أتهجّى المعنى وأصقل الكلمة، وأسعى كل يوم إلى أن تكون كتابتي أصفى وأعمق. لذلك، لا أنوي من هذه المقالة أن أكون معلمًا لك أو مرشدًا، وإنما أكتب لك بصفتي صديقًا، صديقًا ربما لم يركَ وجهًا لوجه، لكنه تمنى لك الخير دائمًا، ورجا لك أن تجد في كلماته ما يعينك أو يلهمك أو حتى يواسيك.
ولعلك يا عزيزي، تجدني أواسيك بين الحين والآخر في مقالاتي، غير أنّ الحقيقة أكبر من ذلك؛ فأنا في جوهر الأمر أواسي نفسي أولًا. إنني أكتب لي ولك معًا، كأنني أضع على الورق حوارًا صامتًا بين قلبين لم يلتقيا، علِّي أجد في ما أكتبه عزائي حين أعود إليه لاحقًا، أو قوةً أستمدها في ساعة ضعف، إنني أَكتُب وكأنني أطلّ من نافذة المستقبل، أرى ما لم يره القارئ بعد، بمن فيهم نفسي التي خلّفتها في الماضي.
أَكتُب كمن يبعث برسائل إلى ذاته القديمة، يذكّرها بما غاب عنها، ويهديها ما تعلّمته في الطريق. كل جملة أضعها أشعر أنها جسر بين زمنين، أنا الذي صار، وأنا الذي كان، وبينهما قارئ قد يجد نفسه حيث كنتُ، أو حيث سأكون. فالكتابة، في نهاية المطاف، ليست إلا مرآةً نحدّق فيها لنرى أنفسنا بوضوح أكبر، أو جسراً خفيًا نمدّه لغيرنا علّه يجد في كلماتنا ما افتقده. إنني حين أخاطبك، إنما أخاطب جزءًا من نفسي يسكن فيك، وحين أواسيك، فإنني أرجو أن تلتفت كلماتي إليّ وإليك يومًا ما، لتكون البلسم الذي احتجته ولم أجده إلا في حبر قلمي.
لذا، يمكنك أن تستقبل نصائحي كما تستقبل رسالةً تأتيك من الغد أو المستقبل، رسالة تحمل لك همسًا يخبرك بما ينبغي أن تفعل اليوم، وكيف تخطو أولى خطواتك. تعامَلْ معها كأنها رسالة صغيرة أُرسلت إليك من زمن آخر لتفتح أمامك الطريق وتضيء لك ما قد يلتبس عليك. فكل ما أرجوه أن تكون هذه الكلمات حافزًا لك، تذكيرًا بأن البداية ليست بعيدة المنال، وأن الغد لا ينتظر إلا من يملك شجاعة الحاضر. فإن أمسكت بها، فربما تجد نفسك وقد سبقتَ زمانك خطوة، وربما تكتشف أن الطريق الذي بدا معتمًا لم يكن يحتاج إلا إلى شرارة من كلمة لتُبصره.
فخذ من هذه السطور ما ينفعك، واترك ما لا ترى له موضعًا في قلبك أو عقلك، فالكلمة كالبذرة؛ قد تُنبت في أرضك ثمرًا، وقد تمرّ مرّ السحاب. وما أرجوه أن تجد بين هذه الكلمات ما يوقظ فيك شغفًا، أو يفتح لك بابًا جديدًا، أو يذكّرك بما كنت تعلمه ونسيته في زحمة الأيام.
لذلك، أَبقِ قلبك مفتوحًا، وعقلك متأهّبًا، ولا تخشَ التجربة ولا الزلل؛ فكل كلمة تسطرها، مهما بدت لك عابرة أو بسيطة، هي خطوة تقترب بها أكثر من جوهر الكتابة. ومع كل محاولة، يشتدّ عودك، ويصفو حسّك، وتتعلم كيف تُصغي إلى صوتك الداخلي. وإن شئت أن تسمي نفسك محبًّا للكتابة، أو كاتبًا أكثر وعيًا، فلا بأس في ذلك، غير أنّ الألقاب يا عزيزي لا تصنع الحقيقة، ولا تزيد الكلمة جمالًا ولا عمقًا.
المهم أن تكتب، أن تترك أثرًا صغيرًا كل يوم، أن تحاور نفسك عبر الورق، وأن تُجرّب من دون خوف أو تردّد. ومع الوقت، ستكتشف أن ما كنت تبحث عنه في "اسم" أو "صفة" ستجده في فعل الكتابة ذاته، في الصدق الذي تضعه بين السطور، وفي اللحظة التي تدرك فيها أن القلم صار امتدادًا لروحك.
سؤالان جوهريان نجيب عليهما في هذه المقالة، نأخذهما واحدًا تلو الآخر، كيف تكتب؟ وماذا تكتب؟
أولًا، كيف تكتب؟
ولعلنا نجيب عنه على هيئة نقاط واضحة، كل منها يضيء زاوية من هذا الطريق:
إعلم يا عزيزي أن الكتابة ليست مجرد ترتيب كلمات على ورقة، بل هي أسلوب حياة كامل. ربما تتساءل كيف يمكن أن تصبح الكتابة أسلوب حياة؟ أقول لك، إن جوهرها يكمن في التمعّن بالتفاصيل الصغيرة، والملاحظة الدقيقة لما يحيط بك، والإنصات لصوتك الداخلي. ذات يوم أخبرني أحدهم في صِغري أن أصغي لأصوات الطبيعة، وفي كل مرة كنت أستمع كنت أسمع أصواتاً جديدة ومختلفة، حتى إن كانت الشجرة هي نفسها في كل مرة.
وهكذا أدركت أن الكاتب الحقيقي يرى العالم بعين أخرى؛ عين تلتقط ما لا يراه الآخرون، وتسمع همس الأشياء من حوله. مع مرور الوقت يصبح الالتفات للتفاصيل عادة، وتتحول الكتابة من مجرد فعل إلى طريقة في التفكير والتعامل مع الحياة. فأنت حين تكتب، تعيد اكتشاف العالم من جديد في كل سطر، وتمنح الأشياء والأحداث معاني أعمق من ظاهرها.
لذلك، إذا أردت أن تكون كاتباً، عش الكتابة في يومك كله؛ لاحظ، أصغِ، تَأمَّل، ثم ترجم كل ذلك لكلمات تنبض بالحياة لعلك تنبض معها في كل مرة. ولذلك، الكتابة الصحيحة تبدأ بفهم ما تريد قوله قبل أن تختار الحروف، وتستمر بانتباهك لكل تفصيل، ومراقبتك للمشهد، وتفكيرك في الزوايا التي قد يغفل عنها الآخرون. قد لا تكون متحدثًا جيدًا في العلن، ولا بأس بذلك؛ فالكتابة مع الوقت تطوّر قدراتك في التعبير، وتنمّي مهاراتك في التفكير والتحليل والتواصل.
سأنقل إليك تجربتي مع الكتابة وكيف بدأت منذ طفولتي، ليس لأنني أظن أن البداية في الصغر شرط للنجاح، بل لأؤكد لك أن أي وقت هو وقت مناسب لتبدأ وأن في التفاصيل الصغيرة قدرات كامنة. فالكتابة رحلة يمكن أن تبدأ في أي لحظة، ومع كل كلمة تُكتب، تنمو قدرتك على التعبير، وتزداد عمقًا وفهمًا للعالم من حولك ولذاتك. فالسرّ في الكتابة ليس في العمر الذي بدأت فيه، بل في الاستمرارية والصبر والملاحظة الدقيقة لكل ما حولك، حتى لو بدا للآخرين عابرًا أو صغيرًا.
في صِغري، كان لدي شغف خاص بالدفاتر، بالنسبة لي لم أرها يوماً مجرد أوراق، بل لطالما كانت مرايا تعكس ذوقي واهتمامي بالتفاصيل. كانت دفاتري دائمًا مميزة، تفرض شخصيتها الخاصة من المرحلة الابتدائية وحتى أيام دراستي العليا. كنت ولا زلت أبحث عن دفاتر فريدة تثير إعجابي، أقتنيها بعناية، وأحتفظ بها كما لو كانت كنوزًا صغيرة. بل وأحيانًا، كنت أصنع لنفسي ملصقات خاصة، أطبعها وألصقها على الدفاتر المتشابهة، لأمنح كل دفتر هويته وتميّزه عن غيره، كأنني أترك بصمتي الخاصة على كل صفحة قبل أن تبدأ الحروف بالكلام، وإلى يومنا هذا، ما زالت رفوفي تضجّ بدفاتر لا تُحصى، بأشكال وأحجام شتّى، كثير منها مصنوع من الجلد، كأنها صناديق صغيرة تحفظ روحي بين صفحاتها.
ولكل دفتر منها وظيفة خاصة، سرّ مختلف، وعالم لا يشبه الآخر؛ دفتر للأفكار الخاطرة التي إن لم تُقيَّد تلاشت، وآخر للخواطر التي تولد في لحظات الصمت والتفكر، وآخر للأشعار التي أكتبها وكأنني أهمس لنفسي، وآخر للقصص التي تتشكّل من ملامح الناس وأحاديثهم العابرة. وهناك دفتر أثقلهم حضورًا، أدوّن فيه ملامح الرواية التي قد تُنشر يوماً ما، إن كتب الله لها أن تُولد وتتنفّس بين أيدي القراء، ودفاتر أخرى لا داعي لذكر وظائفها.
قد تتساءل ياعزيزي عن مغزى هذا الحديث حتى الآن، وأسألتك مُحببة إلى نفسي دائمًا. غايتي الحقيقية هي أن أُشير إلى أن تفصيلة صغيرة في الحياة قادرة على خلق الشغف لديك تجاه أي شيء، كأن تكتشف جمال الكتابة أو حتى تستمتع بعملية الدراسة نفسها. لهذا، إذا كنت تمر بمرحلة دراسية الآن، أنصحك بأن تعطي دفاترك اهتمامًا خاصاً؛ فمع مرور الوقت ستكتشف أنك تملأها لأن شكلها الجميل يمنحك متعة خاصة، ويجعل من عملية التدوين أكثر إلهامًا.
ستجد أن العناية بهذه التفاصيل تساعدك على استيعاب المعلومات وتذكرها بسهولة، وتجعلك أكثر إنتاجية في دراستك، كما تمنحك شعورًا بالإنجاز وتعود بالنفع الكبير عليك عند المراجعة والاستعداد للاختبارات. وهكذا تتحول الدفاتر من مجرد أوراق إلى رفيقٍ يحمل أجزاء من فهمك واهتماماتك، وتصبح مع الوقت شاهداً على تطورك واهتمامك بذاتك وبعلمك. لذا، لا تتردد في التركيز على التفاصيل الصغيرة؛ فهي تُشكل الفرق في رحلة التعلم وتضفي عليها طابعاً خاصاً وذكريات لا تُنسى.
وهذا بدوره يقودنا إلى النقطة الثانية وهي بمثابة الرابط الذي يأتي عن طريق القراءة. فالقراءة هي ركيزة أساسية لكل من يسعى إلى أن يكتب. اقرأ ما تحب، نعم، لكن اجعل دائماً نصيباً أكبر من وقتك للكتب المكتوبة بلغتك الأم؛ فهي وعاء هويتك، ومستودع أصالتك.
وأثناء قراءتك، من الطبيعي أن تتوقف عند ما تراه مهماً؛ قد تكتب ملاحظاتك في هوامش الكتاب، أو تخصص دفتراً صغيراً ليكون شاهداً على أفكارك. بعد ذلك، اختر اقتباساً واحداً فقط مما دوّنت، وردده بصوت مرتفع مرات ومرات. لا تستهن بهذه الخطوة، فالتكرار الصوتي يُرسّخ المعنى في داخلك، ويمنحه صدى يتجاوز حدود الصفحة.
أما عن الهدف الحقيقي وراء هذه العملية فسوف نكشف عنه لاحقاً، فلكل خطوة مغزاها الذي يكتمل في السياق العام. وفي كل الأحوال، سيكون هناك مقطع فيديو يوضح هذه الممارسة عملياً، وسيُعرض على القناة في اليوتيوب بعد انتهاء سلسلة كيف نصبح مثقفين التي ستبدأ اولى حلقاتها اليوم بمشيئة الله.
هذا يقودنا إلى النقطة الثالثة وهي أن الممارسة هي أساس أي عمل حقيقي. واعلم يا عزيزي، أن القليل المستمر خير من الكثير المنقطع. لذلك، أُحبذ أن تبدأ بالكتابة اليومية لمدة خمس عشرة دقيقة فقط. إن كنت من محبي تدوين اليوميات، فليكن ذلك، وإن لم تكن كذلك، فلا بأس، رغم أني أنصحك بالمحاولة. ما نريده هنا هو أن نخلق هدفًا ثابتًا لك كل يوم خمسة عشر دقيقة من الكتابة. في البداية، ستكون الكتابة عشوائية لمدة أسبوع واحد، فقط لتعتاد على فعل الكتابة ويعتاد عقلك على نشوء عادة جديدة في يومه.
وماذا بعد الأسبوع؟ نستمر في الكتابة خمس عشرة دقيقة يومياً، لكن هذه المرة لن تكون الكتابة عشوائية. المطلوب أن تختار شيئاً عادياً للغاية، وتشرع في وصفه بأدق ما تستطيع. العادي هنا هو مساحتك للتأمل، لا تتعامل معه باعتباره تافهاً، بل كنافذة تُدرّبك على الانتباه، كلما كان الإطار أضيق، كان وصفه أشد تعقيداً.
ولا تظن أن أمثلة الكتابة محصورة فيما أذكره لك، فالخيال أوسع بكثير من أن يُحد بحدود، وهو مهارة رفيعة لا يتقنها معظم الناس. قد تختار شعورك في لحظة ما، أو حالة الطقس، أو موقفاً عابراً جداً، المهم أن تُطلق العنان لعينك وقلبك معاً.
لكن تذكّر أن المطلوب ليس أن تكتب جملة باردة مثل "الجو حار" أو "اليوم بارد". ما نريده هو أن تصغي للعالم بكل حواسك؛ أن تلتقط صوت العصافير وهي تُعلن الفجر، ورقصة الأوراق وهي تتساقط على الرصيف، همهمة الماء وهو يجري في الشوارع، أو ضحكات الأطفال التي تملأ الحيّ. كل هذه التفاصيل الصغيرة ليست هامشية، بل هي حياة كاملة تختبئ في المشهد من حولك، ومهمتك أن تمنحها لغة.
فالمفتاح هنا هو العمق، فلا تكتب ما على السطح، ولا تكتفي بما يخطر على بالك فورًا فقد يكون مبسطًا أو هشاً. اغمر نفسك في التفاصيل، لاحظ كل صغيرة وكبيرة، ودونها فورًا. بهذه الطريقة، تتحول الكتابة إلى مرآة حية للعالم حولك، وتصبح عادتك اليومية تمرينًا على الملاحظة والفهم العميق. ماذا نريد؟ تدريب العقل على ان لا يرى السطح فقط، بل يتعمق أكثر وأكثر دائماً.
احتفظ بكتاباتك، واقرأها مجددًا بعد شهر من الآن. حينها، يمكنك أن تخبرني عما لاحظته من تغيّر وتطور في كتاباتك وأنا واثق تمامًا أن النتائج ستكون مبهرة بالفعل. المهم في هذا التمرين أن تبتعد كليًا عن أي أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي أثناء كتابة نصوصك، اجعل التجربة صادقة تمامًا وخالية من أي ضغط أو خوف من الخطأ؛ لا يوجد من يراقبك، ولا أحد سيحاسبك. لتكن هذه السطور بالكامل من قلبك وعقلك دون وسيط أو أدوات خارجية.
قد تحتاج إلى نقطة بداية، ولا بأس في ذلك أنا معك قلباً وقالباً، سأضع لك بعض الصور لتدقيق النظر فيها أو الاحتفاظ بها. يمكنك أن تستخدمها في تمارينك القادمة بأن تصف بكل حرية ما تراه فيها؛ دقق في الألوان، الشكل، التفاصيل الصغيرة، الجو العام للصورة، وتصوّر الحكاية التي تحملها. تخيّل أنك تُجيب على سؤال: "صف ما ترى؟
تذكر أن الصور ليست مجرد ما تراه العين، فهي لا تحتوي على تفاصيل مرئية كثيرة، لكنها تخبئ في داخلها عوالم كاملة من المعاني والمشاعر. كل ظل، كل لون، كل فراغ فيها يحمل قصة تنتظر من يلتقطها أن يكتشفها. ربما تبدو بسيطة للوهلة الأولى،لكن تعمق فيها حتى تصل إلى ما لا يُرى بالعين المجردة. في بساطتها تكمن قوتها، وفي هدوئها يكمن صخبها الداخلي، الذي يحرك الفكر والعاطفة معاً.
صف ما ترى ياعزيزي: كلما كان الإطار أضيق، كان وصفه أشد تعقيداً.
ثانيًا، ماذا تكتب؟
أغلب الناس تكتب بهدف إرضاء الجمهور، لكن أمهَر الكُتاب هم من يستطيعون التعبير عن أحاسيس الناس وكأن كل قارئ يقرأ كلماتهم ويشعر بأنها مشاعره وتجربته الخاصة. بناءً على ذلك، يجب أن تكتب ما يمليه عليك قلبك أنت فقط، بلا تقليد أو محاولة إرضاء أحد بشرط أن تكون أخلاقية. وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة أخرى، كثير من الناس يطمحون فقط إلى أن يُقال عنهم "كاتب"، ولكن ماذا بعد ذلك؟
لقد قلناها مرات ومرات، لا تجعل هدفك هو جمع التصفيق والمديح، فهذا يقلل من قدرك الحقيقي إن لم تعي إنتباهاً. أنت وُلدت لتكون "أنت" بذاتك، ضوءك ينبع منك بدلاً من عيون الآخرين. لا تهمك ألقاب الناس، ولا تحكم نجاحك بمدى شهرتك أو بمدى قبول الآخرين لك. الشهرة والاحتفاء أمور فانية ولا قيمة لها، لكن قيمتك الحقيقية تكمن في صدقك مع ذاتك والتزامك بما تحب، وتركك لأثر حقيقي.
في المستقبل قد تجني من الكتابة مردودًا ماديًا، وهذا أمر محمود ولا بأس به، لكن سمِ الكتابة استثمارًا سليماً في نفسك ومستقبلك أولاً. لذلك، لا تكتب لتُرضي الجمهور، بل اكتب لأن قلبك يطلب ذلك. إذا كانت كلماتك صادقة مشاعرك مؤثرة، فإن نصوصك ستجد طريقها إلى النور مهما تأخر الوقت. وتذكر أن النور الحقيقي ليس ضوء الجمهور، بل هو الضياء الذي ينبعث من داخلك، نورك الخاص الذي يضيء طريقك ويعكس عقلك.
النقطة الثانية هي أن المواضيع لا تفنى ولا تُستحدث على الحقيقة، بل هي كامنة في الصلب الدائم للتجربة الإنسانية. كل ما نكتبه أو نفكر فيه ليس سوى إعادة اكتشاف لتلك الجذور التي لم تأبه بها ولم ترها بقلبك.
أتتذكر في بداية هذا المقال حين اقترحنا التمرين البسيط؟ أن تكتب مما يخرج من أعماقك، لا مما يطفو على السطح؟
لم يكن ذلك تدريباً على مهارة الكتابة فحسب، بل كان غايته أوسع وأسمى، ومرادنا هنا هو صقل رؤيتك للحياة، وعلى التعامل مع الأمور من حولك بوعي جديد، ان ترى في كل موقف، و في كل شخص جوانب أعمق. ومع مرور الوقت، ستكتشف أن كل حدث، مهما بدا عابراً، يملك طبقات متراكبة من المعنى العميق الذي يختبأ أسفل السطح. لن تعود تكتفي بالسطح أبداً؛ لا في مواقفك ولا في علاقاتك مع الآخرين. ستجد نفسك تميل إلى التعمق، إلى الإصغاء لما وراء الكلمات، وإلى التقاط التفاصيل الخفية التي تعطي للحياة معناها الحقيقي. وبهذا المعنى، يصبح كل موضوع حتى أكثرها بساطة فرصة لتوسيع مداركك، وميداناً لاختبار نضجك الفكري والروحي.
حينها ستجد نفسك تلتقط مئات المواضيع في اللحظة ذاتها، وبدون تخطيط مسبق، لأن فهمك العميق لجوهر الأشياء صار يفتح لك الأبواب دون عناء. ستصبح عينك أكثر حساسية لما حولك، وأذنك أرهف لالتقاط النغمة الخفية في كل مشهد أو فكرة أو موقف. ومقصدي أن الكتابة عند تلك المرحلة لن تحتاج إلى كثير من الجهد الذهني أو التخطيط المسبق؛ ستتدفق كما يتدفق النهر من منبعه، طبيعية وعفوية، وكأن الكلمات تنتظر فقط أن تمنحها فرصة العبور إلى الورق. بل أكثر من ذلك، ستشعر أن الأفكار لم تعد تنبع من الخارج، بل تتوالد داخلك باستمرار، تتحرك كما تتحرك أنفاسك. ستكتب لأنك لا تستطيع إلا أن تكتب.
كان ما سبق بمثابة جواب نظري لسؤال: ماذا تكتب؟ أما الآن، فقد حان أن ننتقل إلى الجانب العملي.
عالمنا مليء بلا حدود بالمواضيع؛ أحداث لا تنتهي، حروب وموت، أمراض وأوبئة، قصص تُروى، كتب تُكتب، مآسي تعانق الفرح، فقر وثراء فاحش، خيانة وحب، صداقات تتفتت، ولحظات لا تُحصى من الفقد والانتصار، والقائمة تطول بلا نهاية. في كل خانة من هذه الخانات تكمن ملايين القصص، ملايين التجارب، ملايين الأرواح التي تنتظر أن تُفهم، أن تُسرد، أن تُستكشف.
أُكْتُب عن العالم الذي تعيش فيه، وعن العالم الذي يعيشه من حولك. لا تقل لي إن الحياة ساكنة لا حركة فيها، فالأرض تضجّ بالأحداث، والعالم يموج بالبشر وتناقضاتهم. كل يوم يُقتل إنسان، ويُباد آخر، ويقف شخص ما على حافة الموت ليمنح غيره فرصة للحياة. كل صباح يتخذ أحدهم قراراً بأن يكون سبباً في أذى إنسان آخر، في تدميره جسدياً ونفسياً، بينما هناك من ينهض بعزمٍ ليبني، ويساند، ويمد يده بالخير.
على هذه الأرض، قلوب تخفق بالحب، وأخرى تنكسر بالفقد، قلوب تسعى لأن تُحَب وتُحِب، هناك من يجوع في الطرقات، ومن يبحث بيأس عن مأوى، عن لقمة، عن حضن عائلة ربما. وهناك من يخون أقرب أصدقائه بدافع نزوة عابرة، ومن يسقط في لحظة ضعف تقوده إلى الندم. أحداث لا متناهية كل ثانية.
فإن لم ترَ في هذا العالم أحداثاً، ولم تجد فيه ما يستحق أن يُكتب عنه، فالمشكلة ليست في العالم، بل فيك أنت. ربما تحتاج حينها إلى أن تعيد النظر في حياتك بأكملها، وفي طريقة تفكيرك، وفي قلبك ذاته. الكاتب الحق هو من ينظر إلى الحياة بعين متقدة وقلب حيّ، يلتقط تفاصيلها الدقيقة ليحوّلها إلى حكايات تنبض بالصدق والدهشة، فيكشف عن الجمال الكامن حتى في أكثر اللحظات قسوة.
دعني أضرب لك مثالاً بسيطاً عمّا يمكنك كتابته عن جزئين متناقضين من المشاعر الإنسانية التي نمر بها كل يوم، مثل الكره والحب. ففي لحظة واحدة، قد يملأ قلبك شعور بالكراهية تجاه شخص آذاك، وفي اللحظة التالية تجد نفسك مأسوراً بالحب تجاه شخص آخر يفهمك ويقف إلى جانبك.
وإليك زاوية فلسفية مختلفة، رأى كل من أفلاطون وأرسطو أن الكره في جوهره حب. كيف ذلك؟ الفكرة أنهم لم يعتبروا الكره شعوراً مطلقاً بالرفض، بل انعكاساً لشدة تعلقنا أو توقعنا من الشخص الآخر. فحين تكره أحدهم، فأنت في الواقع قد منحته مساحة في قلبك، وعليه كان لك أن تتمنى لو أن يستمع إليك أو يفهمك على طريقتك الخاصة. أما الكره الذي نعنيه عادةً، أي اللامبالاة المطلقة، فهو حالة لا تهتم فيها بوجود الشخص أو غيابه؛ هنا لا يكون هناك أثر للحب، بل فراغ كامل وهذا لا يُتقنه الجميع.
وهذا بالضبط ما يجعل الكتابة عن المشاعر الإنسانية غنية وعميقة، عندما تكتب، تتعلم أن ترصد تلك المساحات الدقيقة في القلب، وتكتشف الطبقات المتعددة للمعنى. يمكنك أن تصف لحظة غضبك، ثم تنتقل بسلاسة إلى لحظة الحب، وتلتقط تلك التناقضات في سطر واحد، أو في مشهد واحد، ليصبح نصك نابضاً بالحياة، صادقاً، ومعقداً كما هي النفس البشرية نفسها.
ومن هنا يبدأ التدريب العملي ياعزيزي، اكتب كل يوم عن لحظة تمر بها وتشعر فيها بمشاعر متناقضة، ولا تخف من أن تُظهر صراعك الداخلي بكل صدق. مع مرور الوقت، ستجد أن قدرتك على التعبير عن المشاعر المركّبة تصبح أكثر طبيعية وسلاسة. قد تكتب عن مشاعرك تجاه الآخرين، أو عن مشاعر الآخرين تجاهك، وقد تكتب عن التناقض الذي تعيشه في داخلك مثل الحب والكره، الفرح والحزن، الأمل واليأس. المهم أن تلتقط التفاصيل الدقيقة لكل شعور، كيف يتسرب إلى جسدك، كيف ينعكس على وجهك، وكيف يتقاطع مع لحظاتك اليومية. هذا النوع من الكتابة يعلمك الانتباه لما وراء السطح، ويحوّل كل تجربة يومية إلى فرصة للتأمل والتفكر.
لكل موضوع وجه آخر، وكل حدث يحمل خلفه طبقات من المعنى لا تراها العين مباشرة. إن تعمقت في أي من هذه الزوايا، ستجد شبكة معقدة من العلاقات، مشاعر متشابكة، أفكار متصارعة، وحقائق تختلط بالأوهام. ومن هنا تأتي الفرصة أن تكون ليس مجرد مشاهد، بل باحث، متأمل، متفكر، مستعد لأن تغوص في عمق ما يختبئ وراء السطح، لتفهم العالم وتفهم سلوكك ضمنه. الجواب عن هذين السؤالين معًا هو بمثابة خارطة طريق لكل من يريد أن يصبح كاتبًا صادقًا مع نفسه ومع قرائه: الكتابة أسلوب حياة، والمحتوى انعكاسٌ لعقلك وعمق شعورك.
أَعلمُ تماماً ياعزيزي أن بداخلك العديد من التساؤلات حول الكتابة، اسئلة مثل ما هي العناصر الأساسية التي يجب توافرها؟ كيف يمكن صياغة جملة مركبة تتداخل فيها الأفكار بسلاسة؟ وما هي الأساليب التي تجعل النص متماسكًا؟ وغيرها الكثير. لهذا السبب، هذا المقال يُعد البداية الرسمية لأول جزء من السلسلة، التي سنكون فيها سوياً خطوة بخطوة لنتعرف على أهم الأمور التي يجب أن تضعها في اعتبارك عند الكتابة أو عند رغبتك في الكتابة. في هذه السلسلة، سنكون معًا كما في سلسلة كيف نصبح مثقفين؛ في هذه السلسلة، لن نكتفي بالحديث عن النظريات أو القواعد الجامدة، بل سنغوص معًا في تجربة الكتابة اليومية؛ كيف تولد الفكرة، كيف تنسج الجمل، وكيف تصيغ النصوص التي تعكس صوتك الداخلي بصدق ووضوح. سأشاركك تجاربي، أخطائي، ونصائحي العملية، لتتمكن من رؤية الكتابة كرحلة حقيقية، وليس مجرد مهارة جامدة تتعلمها.
مع كل مقال في هذه السلسلة، ستجد أدوات وأساليب عملية، أمثلة واقعية، وتمارين تساعدك على تحسين كتابتك بشكل ملموس، لتتجاوز مجرد ترتيب الكلمات على الورق، وتصل إلى نصوص تحمل عمقًا وإيقاعًا وروحًا حقيقية.
قد تتساءل ياعزيزي عن هدفي من ذلك. الحقيقة أنني لم ولن أتبنى سياسة المقالات المدفوعة التي أجدها كثيراً في هذه المنصة وغيرها من المنصات. طوال حياتي، أؤمن بأن التعلم، بكل أشكاله، يجب أن يكون متاحًا ومجانيًا مدى الحياة و للجميع كافةً. هدفي الحقيقي يكمن في إثراء المحتوى العربي في كل مكان، وهذا هو السبب في أنني أكتب المقالات العربية أكثر من غيرها، رغم أن تخصصي الأساسي يمتد إلى اللغات الأخرى، ولكن قلبي وعقلي مرتبطان بالعربية، وأؤمن بأنها أقدر وسيلة لنقل الفكرة والروح معًا إلى أبناء جِلدتي من كافة الشعوب العربية الأصيلة، وأرى أن لغتنا العربية أسمى لغات العالم كونها لغة القرآن الكريم، لذا فإن ما أسعى إليه هو الفائدة والمعرفة المشتركة، لا أكثر ولا أقل.
ستكون رحلتنا يا عزيزي كالتالي، بمشيئة الله:
هذا المقال بمثابة مقدمة وتمهيد الطريق، وفيه تعرفنا بإيجاز على ماذا وكيف تكتب، مع تقديم تمارين عملية أنصحك بشدة بتطبيقها.
مقالنا الأول بعد المقدمة سيكون بمشيئة الله بعنوان مبدئي "أساسيات الكتابة"، وفيه سنناقش العناصر الأساسية للنص الجيد مثل الفكرة، الهدف، والأسلوب، بالإضافة إلى بناء الجملة والفكرة المتراكبة، وأساليب التعبير عن الأفكار بوضوح ودقة.
المقال التالي بمشيئة الله سيحمل عنوان مبدئي "تطوير الصوت الشخصي والأسلوب"، وفيه سنستكشف كيفية اكتشاف صوتك الداخلي، والفرق بين التقليد والابتكار في الكتابة، وكيفية بناء أسلوبك الأدبي الخاص.
المقال الذي يليه سيكون بمشيئة الله بعنوان "الكتابة الواقعية والتعبير عن المشاعر"، وفيه سنتناول وصف المشاعر والأحداث بشكل حي وواقعي، بالإضافة إلى التعامل مع التناقضات الداخلية في الكتابة. وكما هو الحال دائمًا، سنقدّم أمثلة وتمارين عملية تساعدك على التعبير العاطفي بشكل أعمق.
بهذه الطريقة، ستكون السلسلة دليلك الكامل لصقل مهاراتك الكتابية أو على الأقل كمحاولة بداية جيدة، خطوة بخطوة، حتى تصل إلى كتابة نصوص تحمل عمقًا، إيقاعًا، وروحًا حقيقية.
وبالطبع يا عزيزي، سيكون كل محتوى هذه السلسلة متاحًا أيضًا على قناتنا على يوتيوب فور الانتهاء من سلسلة كيف نصبح مثقفين، إلى جانب المقالات المنشورة على صفحتنا هذه. سنقوم بنشر كل مقال على شكل فيديو مصوّر لكن بشكل موسع اكثر لتسهيل المتابعة والتطبيق، بحيث تشعر وكأننا معًا خطوة بخطوة في رحلتنا الكتابية.
وفي أحد المقاطع، ربما سنخصص وقتًا خاصًا لتدريب عملي على صياغة الجملة بجملة، لنتعلم كيفية بناء نصوص بشكل متقن ودقيق، مع أمثلة حية وتمارين عملية يمكنك تطبيقها فورًا. بهذه الطريقة، تصبح الكتابة تجربة تفاعلية تجمع بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، ويمكنك متابعة السلسلة سواء على هيئة مقالات أو عبر المقاطع المصورة، بما يعزز تجربتنا الكتابية ويجعلها أكثر حيوية وواقعية.
يسعدني دائماً أن أفتح باب المشاركة أمامكم؛ فإن كان هناك موضوعٌ معين ترغبون في رؤيته مطروحًا إما في مقال مكتوب أو على هيئة مقطع فيديو، فلا تترددوا في مشاركتي آراءكم واقتراحاتكم بكل أريحية. ويمكنك أيضًا متابعة القناة على يوتيوب إذا رأيت أن ذلك قد يضيف لك شيئًا مفيدًا.














حنين عابر
في يومٍ خريفي مثقل بالحنين والألم، قررت أن أستقل قطار الأنفاق في عودتي إلى المنزل.
لا أريد أن أرى شيئًا يذكّرني بك: لا الشوارع، ولا أوراق الأشجار المتساقطة، ولا غيوم السماء المتكدسة.
كان السكون يخيم على العالم من حولي، وظننت أنني لن أفكّر وسط الضجيج والزحام، لكن فراغ المحطة كان أثقل من الزحام، والمقاعد الخالية تشبه انتظار روحي المعلّقة كمعاطف الشتاء.
كأول شتاءٍ سرق من شوقي دفءَ الأيام.
بكيت بشدة حين غمرني هذا الهدوء في الأرجاء، خانتني دموعي وسط ضجيج أفكاري، وشعرت كم أنا مثقلة بحنينٍ للقياك.
تبادَر إلى ذهني وصف حين رأيت المشهد في الصّورة الأولى!
سكن اللّيلُ روح المدينة،و كانت أضواء مع صوت ضحكاتٍ بريئة تنبع من وسطها ،نعم إنّها مدينة الملاهي ،وجهة من أراد الترفيه عن أطفاله و من أراد فصل نفسه عن دوامة الحياة و أحزانه حتّى و لو لفترة وجيزة ،لكنّ عقلي لا يبرح أن يجعل لكل مشهدٍ قصّة ،ما شدّ انتباهي كان لعبة الاحصنة الدوّارة ،بالتحديد ألهمني ما كان حولها من مشاعرَ مختلفة ،فزوجان فرحان بمرح ابنهما يشاهدانه بكلّ امتنان، و أمّ وحيدةٌ خائفة على ابنتها من السّقوط فأثار خوفها عجبي، رغم بساطة اللّعبة لماذا كانت تبالغ في القلق، ألماضيها دخل في ذلك ،أم ربّما وحدتها!كانت عيناي تبحثان عن مشهدٍ آخر بكلّ لهفة و كأنّي أنتظر أن أرى بضعاً منّي فيه!وجدته ،كان شاباً يقف واضعاف يديه في جيوبه، الناظر إليه يعلم أنّ ليس له أحدٌ يراقبه في اللّعبة غير نفسه و كأنه مع كلّ دوران كان يتساءل فيمَ أمضَ سنواته ،بل أين هو من السنوات ،و كأنّ دوران الأفكار في عقله لم يكِفِه فزادته اللّعبة عبئاً و ألماً ،رغم سكون شفتيه إلا أننّي كنت أراه لا يزال يتساءل قائلا "أين أنا ،و أين وجهتي؟