كان مطلع أحد الأفلام العربية القديمة للفنان الراحل “أحمد زكي” يحمل سطرًا فريدًا من نوعه، سابقًا لعصره، حين قال باللهجة العامية المصرية "الناس ماشية ورا بعض، من غير ما تفكّر، من غير ما تسأل رايحة فين." جملةٌ قصيرة نوعاً ما، لكنها كانت افتتاحية الكاميرا للمشهد الأول كأنها انعكاس لعصرٍ فقد بوصلته الإنسانية الأصيلة.
ومن تلك الكلمات، بدأ السرد يتشعّب كالنهر في موسم فيضانه؛ لا يكتفي بملامسة سطح الواقع، بل يغوص في النفس البشرية ذاتها، تلك التي كلما ابتعدت عن البصيرة، عادت تفتّش في داخلها عن شظايا ضوء، تحاول أن تلمّها، أن تُعيد ترتيبها، لعلّها تبصر من جديد. ثم اكمل الفنان السرد قائلاً “ إذا فَسَدت البيئة، لم يبقَ للإنسان من ملاذٍ إلا عقله ودينه؛ ففي العقل حُسنُ التقدير، وفي الدين ضوءُ الهداية. و يحتمي الإنسان بعقله عندما يجعله القائد على شهواته، والموجّه لرغباته، لا تابعًا لها ولا أسيرًا بين يديها.
و الإنسان كونه بطبيعته كائنٌ مُستهلك لابد له ان يُحكِم السيطرة على رغباته، لكن إذا غلبت عليه شهواته، وانهمك في إشباع رغباته دون وعيٍ أو ضابط، تحوّلت حياتُه إلى فوضى من الشراهة والضياع”. وبهذا ياعزيزي تُصبح اللذائذ التي كان يُطاردها سببًا في ألمِه، ويغدو في صراعٍ دائم، لا يرتوي مهما أُشبع، ولا يسكن مهما امتلك. لذلك نستهلك، ولكن بعقلٍ وحكمة، وبما يوافق أصول الدين ومقاصده. فليس المقصود أن يحرم الإنسان نفسَه، بل أن يضبطها.
وحين تفسد النفس، ينعكس فسادُها على ما حولها؛ فتفسد البيئة، وتضطرب العلاقات، ويضيع المعنى. فالحكمة كلّ الحكمة أن يعرف الإنسان متى يكفي، وأن يدرك أن اللذة الحقيقية لا تكمن في الإفراط والتقليد، بل في التوازن، وفي الرضا، وفي سموّ النفس عن عبودية الشهوة والإتباع. عبر عنها ايضاً العالمي اوسكار وايلد حينما قال “أغلب الناس ليسوا أنفسهم، أفكارهم صدى لآراء غيرهم، حياتهم تقليدٌ باهت، وحتى مشاعرهم مجرّد اقتباسات متكررة لا تحمل الأصل ولا صدقه. يتحدثون كما يُملى عليهم، يحبّون كما يُتوقّع منهم، ويكرهون لأن الحشد كره، يسيرون في طرقٍ لم يختاروها، ويبررون اختيارات لم يتخذوها أصلاً. إنهم نسخ تمشي، وجوه تتبدّل لتُرضي الجميع، وأرواح تذبل ، لأنها لم تذق طعم الأصالة يوماً”.
لكن لا تُخطئ الظن، يا عزيزي، فالعالم لا يكره الأصيل لأنه مخطئ، بل لأنه يُشعرهم بأنهم تخلّوا عن حقيقتهم. وكلما ازداد وضوحك، زاد ضيقهم. فأنت في حقيقة الأمر مرآة لا يُحبّها من تعرّى من ذاته.
هذه ياعزيزي حكاية الإنسان حين يغترب عن ذاته، فينخرط في تيارٍ جارف لا يسأل عن اتجاهه، يركض مع القطيع نحو مصيرٍ مُبهم، لا يعرف له وجهة، حتى إذا أنهكه الركض وتعثّر بفراغ السؤال، وقف يلهث قائلاً: هل كنت أهرب من شيء؟ أم أسير خلفهم فقط لأن الجميع يسير؟ وهل هذا الطريق لي؟ أم طريق فُرض عليّ باسم الطمأنينة؟ لكن الحقيقة المُرّة أن أغلب من يسيرون مع القطيع لا يصلون أصلًا إلى هذا السؤال، وإن بلغوه يومًا، يكون غالبًا بعد أن تشكّلت جذور الاتّباع في أعماقهم، وترسّخت في أذهانهم حتى غدت قراراتهم ردود أفعال لا وعي فيها.
وبفوات الأوان، لا أعني موتًا بيولوجيًا أو فناءً حتميًا، بل أعني ما هو أشد فتكًا: أن تفقد سيادتك على نفسك، أن تظن أنك تختار بينما الحقيقة أن الاختيار قد سُلب منك منذ زمن، وأن القطيع هو من يُملي عليك ماذا تلبس، من تُحب، متى تغضب، ومتى تصمت. في حقيقة الامر ياعزيزي، ان الإنسان التابع للقطيع يظن أنه حر تماماً، يمضي في الحياة بخياراته، يحدد مساراته، ويصوغ قراراته بوعيه. لكنه في الحقيقة، في كثير من الأحيان، ليس سوى أسير نفسياً لندبة قديمة، خفية، نسي حتى كيف وُجدت.
وأحب أن أُشبّه هذه الحالة بأمر بسيط، لكنه بالغ الدلالة: كأن يُصاب الطفل بجرح صغير لنقل أن يُقال له إنه ليس كافيًا، أو أن يُقارن دومًا بأخيه، يُقال له باستمرار: “انظر لأخيك، هو مجتهد أكثر... أهدى منك... أذكى... الخ”. جرح صغير في الظاهر، لكن هذه ستكون بداية سلوك لهذا الطفل يشكل هويته حتى موته، جرح بسيط لدرجة أن الأبوين لا يلتفتان إليه، ولا يمنحانه وزنًا. تخيّل ياعزيزي أن لحظة كهذه، لحظة لم تُؤخذ بجدية، قادرة أن ترسم ملامح حياة هذ الطفل بالكامل، أن تدفع هذا الطفل ليقضي أكثر من سبعين عامًا في محاولة إثبات ذاته، لا لأنه يريد، بل لأنه يشعر أنه "ناقص" منذ الطفولة. تخيّل أن سلوكًا وُلد من ألم لم يُعالج، يمكن أن يصبح رفيقه حتى الممات.
أن يصير شخصًا يطارد النجاح لا حبًا فيه، بل هروبًا من شعور بالدونية ترسّب بداخله منذ أن كان في السابعة. والأدهى؟ أن ذلك الشعور يظل يعمل في الخلفية، كبرمجة خفية، تقوده من دون وعي، فتتشكّل قراراته، علاقاته، ردود أفعاله، وحتى أفكاره… بناءً على وهمٍ قديم. وهكذا، بدلاً من أن يكون سعيدًا، يصبح شقيًا. بالطبع لا لأن الحزن فرض عليه، بل لأن السعادة في جوهرها حالة عقلية امتداد لتصالحك مع ذاتك. تمضي السنوات، ويصمت الأهل، وتتوقف المقارنات... لكن الضرر لم يتوقف، بل تَجذّر.
فالطفل الذي عاش تحت ظل المقارنة لم يعد ينتظرها من أحد؛ صار يُجريها بنفسه، مع الجميع، في كل موقف، في كل علاقة، حتى دون أن يدري. يكبر، ويصير في الأربعين ، ناجحًا ربما، محاطًا بالناس، متفوقًا في الظاهر، لكنه يعيش حياته في سباق لا ينتهي، يحاول أن يثبت لنفسه وللعالم أنه الأفضل، أنه ليس أقل من أحد. والطامة؟ أنه نسي أصل هذا لسلوك، اصل هذا الجرح. نسي أنه طوال هذه السنين لم يكن يتحدى الناس، بل يتحدى ظلًا قديمًا لصوتٍ قيل له وهو في السادسة.
فكيف له أن يعالج شيئًا لا يذكره؟ كيف له أن يُصلح سلوكًا يرى أنه "هو"، لا عرضًا؟ وهنا تكمن الكارثة النفسية الكبرى: أن تتماشى مع ألمك إلى الحد الذي تراه طبيعتك، فتصير السلوكيات السامة كالمقارنة، التنافس المرضي، إثبات الذات المفرط، جزءًا منك، لا تعرف كيف تنزعها دون أن تمزق نفسك معها. وتعيش مرهقًا، تطارد الجميع لتتفوق عليهم، بينما الحقيقة أن لا أحد يطاردك، ولا أحد حتى ينتبه، ولا احد يهتم بك، لأن في نهاية المطاف، أنت الرقم الوحيد في هذه المعركة الوهمية… والضحية الأولى.
وهكذا تعمل أغلب الأمراض النفسية: تبدأ من لحظة قديمة، من ألمٍ لم يُعالج، من موقفٍ لم يُفسّر، وتستمر عبر التكرار، حتى تتشكّل شخصية بأكملها حول استجابة غير مفهومة لحدث منسي، وانت قد تنسى هذا الموقف مع مرور الأيام ولكن كما قال الدكتور مصطفى محمود، انت لا تنسى، كل شيئ محفوظ في عقلك، انت فقط لا تملك القدرة لتستذكر، والمعنى الصريح انك مهما نسيت فالعقل لا ينسى، العقل يتناسى، ولكن بعد ان تجذر السلوك الذي تناساه عقلك فيما بعد.
كان هذا فقط مثال تشبيهي لكي تدرك ياعزيزي ان كل السلوكيات تبدأ بمحاكاة بسيطة وتقليد بسيط، جتى تتجذرفي الانسان، يا عزيزي لذلك كل سلوك يبدأه الإنسان بمحاكاة بسيطة، بتقليد تافه، قد ينمو فيه ويتجذر حتى يصبح جزءًا منه لا يميز بينه وبين ذاته الحقيقية. هذا هو سر الاتباع الأعمى للقطيع، خطوة صغيرة تبدو بلا وزن، لكنها تفرض نفسها كقيد لا يراه إلا من ابتعد أو تحرر. سلوك الاتباع، خصوصًا الأعمى منه، ليس شيئًا يُعالَج بمجرد قرار أو وعي، لا، بل هو مرض خفي يغرس جذوره في العقل والوجدان، حتى يبدأ الإنسان بالعيش في سلام مع وضعه وهو يظن أنه حر، بينما الحقيقة أنه محاصر.
لن يعرف حقيقة هذا القيد إلا حين يقابل شخصًا أصيلًا، لم تأسره عادة الاتباع، لم تغره سرعة الركض خلف القطيع، لم تُطمس فيه بصمة تقليدية. عندها فقط ستيدرك كم هو مرتبط بهذه السلسلة، وربما تتزلزل صورته النفسية أمام نفسه، إذ سيشعر بكمّ الاتباع الذي يعشش في قراراته وأفكاره. بالطبع اذا لم يعادي او يسخر من هذا المختلف عن قطيعه، وهو ما وضحناه سابقاً في مقال “لماذا يكره القطيع الشخص العقلاني”.
فلا تستهين باللحظة التي تخطيت فيها حدود التقليد، فإما أن تعرفها وتواجهها، أو ستظل أسيرًا لعادات ومخاوف لا تخصك، تكرّرها كأنها كينونتك. الوعي بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى للخروج من الظل، فلا تغرق في سراب الأمان المزيف، وكن من القلائل الذين يجرؤون أن يكونوا أصلًا، لا مجرد انعكاس.
أعلمُ جيداً ياعزيزي انك على صدد اسئلة كثيرة، وان احد هذه الإسئلة الذي قد تتردد في ذهنك، هو: "ليس كل عادات القطيع سيئة، فلماذا لا نقلد بعضها؟" وهذا سؤال صحيح ومنطقي، ولا غبار عليه. فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي، والتقليد جزء من تعلّمه ونموّه؛ فمن خلاله نكتسب مهارات، قيمًا، وأحيانًا مواقف تُسهل علينا التأقلم والبقاء. هناك الكثير من السلوكيات التي نتعلمها من الآخرين وتصب في صالحنا، تجعلنا نعيش بتناغم أكثر مع المجتمع. لكن الفارق الجوهر هنا هو الوعي والاختيار. أن تقلد بحكمة، أن تختار افضل ما يناسبك وليس الأسهل لكي تواكب من حولك، وأن ترفض مايغير بصمتك الخاصة الفريدة.
أما الاتباع الأعمى، الذي يُغيب فيك قدرتك على التمييز، ويجعل منك نسخة مكررة بلا روح، فهو الذي يستحق المراجعة، وهو الخطر الحقيقي عليك اولاً، فالتقليد ليس عيبًا، بل هو مهارة بشرية. لكن أن تُصبح عبدًا له، فهذا هو السجن الحقيقي، فاختر لنفسك، ولا تدع القطيع يختار عنك.
الإنسان ياعزيزي، هو الكائن الوحيد الذي مُنح القدرة على تجاوز ذاته أو السقوط دونها. الملائكة لا تملك إلا أن تبقى في صفائها، والحيوانات لا خيار لها سوى أن تبقى على فطرتها. أما الإنسان، فهو وحده من يحمل في جوهره احتمالين متناقضين: أن يسمو حتى يلامس نور النجوم، أو أن يهبط حتى يغرق في وحل نفسه. فيه من الملَك إمكان الطهارة، ومن الحيوان قابلية الغريزة، لكن الفارق أن له حرية أن يختار، وله وعي إن أراد أن يصعد ويرتقي أو أن ينهبط و يهوي. ويلفت الإنسان الممتلئ بذاته الانتباه دائماً، لا من باب الغرور أو الانغلاق، بل من تلك الأصالة التي تتخلله، تراه راسخًا في مبادئه، منسجمًا مع قِيَمه، متصالحًا مع حقيقته دون تزوير. لا تهزه التيارات، ولا تجرفه الأهواء المؤقتة، ولا تستهويه الصيحات الرائجة.
فهو لا يسير حيث يسير الناس، بل حيث يدلّه بصيرُه. إن تكلم، نطق عن فهم، وإن صمت، كان لصمته معنى. لا يبحث عن التصفيق، ولا يشتهي الأضواء، لأن نوره ينبع من داخله لا من أعين الآخرين. يمشي وحده أحيانًا، لكنه لا يشعر بالوحدة، فصحبته لذاته تكفيه، لا يقيس نفسه بمقاييس السوق، ولا يقارن حياته بمعايير العابرين، بل يسير على هدى قناعةٍ ناضجة، خالصة، صقلتها التجربة، وباركها الصدق، واحتواها الإختلاف الواعي. مثل هذا الإنسان لا يُستدرَج، ولا يُستبدَل، ولا يُشوَّه؛ لأن جذوره ضاربة في عمق الأصالة، لا تزعزعها رياح التزييف، ولا تُغريها زبد اللحظة.
في المقابل، نجد من يتبع القطيع أشبه بمن أن يلقي بنفسه من مكان عالٍ لكنه لا يهوي ولا يطير. يظل مُعلّقًا بين السماء والأرض، لا يلمس ارتفاعًا يبهج، ولا سقوطًا يوجع. لا شعور طاغٍ، ولا لحظة فاصلة فقط خواء. مُعلّق بين فرح لا يأتي، وحزن لا ينقضي. وفي حقيقة الأمر أن عصرنا الحالي به الكثر من ممن يتبعون القطيع بشكل اعمى، حين تراهم، تشعر ان الحياة كأنها مشهد مُجمَّد، الناس تتحرّك، تضحك، تعمل، تُخطّط، لكن شيئًا في العمق مكسور، ساكن. كأن أرواحهم تسير على أرصفة باهتة، لا تعلم إلى أين، ولا لِمَ أصلاً. كأن أرواحهم تمشي فوق أرصفة فقدت لونها، تمضي بلا وجهة، بلا غاية، بلا سؤال حتى. تنظر في أعينهم، فلا ترى شخصًا، بل انعكاسًا باهتًا، صورة باهتة لأحدٍ لا تعرفه، ولا يبدو أنه يعرف نفسه.
ملامحهم تتشابه حد التماهي، كأنها نُسِخت عن قالبٍ واحد، خالية من الأصالة التي تُعطي الوجوه هويتها. حديثهم واحد، نغمتهم واحدة، نكاتهم مستهلكة، وآراؤهم مستعارة من أفواهٍ لم يعرفوها قط. تحاول أن تجد فيهم اختلافًا، لمحة اصالة، انفعالًا فطريًا، شيئًا يهز السطح الرتيب… لكن لا شيء. كل شيء مصقول حد البلادة، مُعد مسبقًا كإعلانات تجارية، تقول كل شيء ولا تقول شيئًا. كأنهم جميعًا يمثلون أدواراً في مسرحية طويلة، حفظنا نصوصها ولم نعد نؤمن بها، يرردوها كما يُتلى شيء بلا معنى، فقط لأن الإختلاف أصعب. وتسأل نفسك: هل هم فعلًا هكذا؟ أم أن هذا الانطفاء في عينيك جعلك تراهم جميعًا رمادًا؟ وهنا تكمن الحيرة…أتكون أنت المعلّق الوحيد؟ أم أن العالم بأسره بات مُعلّقًا معك، لكنه فقط يُجيد التمثيل ياعزيزي.
تكمن المشكلة يا عزيزي في التقليد الأعمى، أنه حتى عندما يبدو التقليد نافعًا للوهلة الأولى، إلا انه لا يدوم ولا يصمد، لأنه لا ينبع من حاجةٍ داخلية أو رغبة حقيقية في المعرفة او فضولاً يراد به العلم، بل من هوس اللحاق بالركب، أو الخوف من البقاء خارج الصورة. هاك مثلًا ظاهرة القراءة اليوم؛ القُرّاء في وقتنا هذا يمكن تصنيفهم إلى ثلاث فئات: فئة تقرأ فعلًا، تشتري الكتب أو تبحث عنها إلكترونيًا، تقرأها وتتفكّر فيها، ربما تناقشها، وربما تغيّرها وتغيّر بها.
وفئة ثانية تشتري الكتب أو تحمّلها، ولا تقرأها الآن، لكنها تحمل نية القراءة، وتلك بداية تُحترم. فربما حين تتهيأ الظروف، يبدأ وتُفتح له الأبواب. أما الفئة الثالثة، فهي من اشترت الكتب لا حبًا في المعرفة، بل لأن الكل يشتري.
رآهم يلتقطون الصور بجوار الرفوف، يكتبون اقتباسات ويفتون في الفلسفة والأدب، فشعر أنه متأخر، وقرر أن "يواكب" لئلا يبدو أقل. لكن دعنا نعد بعد شهرٍ واحد فقط. ستجد أولئك الذين قرأوا فعليًا قد استمروا، أو حتى قلّ عددهم لكن بقي الأثر. والذي اشترى بنيّة التأجيل، ربما بدأ، وربما لم يبدأ بعد، لكن مكتبته لا تزال تهمس له. أما ذاك الذي جعل من الكتاب ديكورًا، فغالبًا ما يكون قد وضع فوقه جهازه اللوحي أو كأس قهوته، وتحوّل الكتاب إلى حاملٍ أنيق ليس إلا. لن تجده يناقش فكرة، ولا يقتبس قولًا إلا ليزيّنه بعلامة تنصيص. هذه هي مشكلة التقليد الأعمى: لا يُنتج إنساناً، بل مظهرًا.
لا يترك أثرًا، بل فقط انطباعًا سريع الزوال. والمشكلة الأكبر؟ أن من يقلّد لا يشعر أنه يفقد ذاته، لأنه منشغل في أن "يبدو" لا أن "يكون". وحين ينكشف الزيف، لا أحد يلومه سوى نفسه، في لحظة صمتٍ لا كاميرا فيها، ولا جمهور.
إعلم ياعزيزي اننا جميعًا مبرمجون، بشكلٍ أو بآخر ، بالمجتمع، بالأسرة، بالتجارب، بالخوف، وبما قيل لنا أننا يجب أن نكونه. لكن الوعي الحقيقي يبدأ حين نتوقف، نُمسك الخيط، ونسأل أنفسنا: هل ما أفعله الآن نابعٌ من قناعتي، أم مجرد تكرارٍ لصوت، لموضة رائجة، لتقاليد قديمة زرعوها في عقلولنا وليست جيدة؟ لذلك، التحرر لا يعني أن نُنكر كل ما بُرمجنا عليه، بل أن نعيد النظر، أن نختار عن وعي، ونُبقي ما يحفظ كرامتنا، ويُشبه حقيقتنا، ويدافع عن حقنا في أن نحيا لا كما يريد الآخرون، بل كما يليق بنا.
ينقصنا، في حقيقة الأمر، شيءٌ بسيط في ظاهره، عظيم في أثره الا وهو التفكّر. نعم، التفكّر يا عزيزي. تلك اللحظة التي نتوقف فيها عن التلقّي، ونسأل، نُراجع، نُمحص. نُشغّل عقولنا لا لكي نُجادل، بل لنعرف من نحن، وما الذي نفعله، ولماذا نفعله. لكننا قلّما نمنح أنفسنا هذه الرفاهية، لحظة صمت واحدة نتأمل فيها، لا لنُنتج، بل لنُبصر. ولهذا السبب بالتحديد، كثير من الناس لا يُفكّرون بعمق إلا في لحظة واحدة: أثناء الصلاة. تأمل ذلك قليلاً… نحن لا نجد وقتًا للسكينة إلا في اللحظة التي يُفترض أن ننصرف فيها بكامل جوارحنا إلى الله، فنُفاجأ بأن عقولنا تهيم في كل وادٍ، تتذكر أمورًا نسيناها، وتبدأ حواراتٍ داخلية كأنها استيقظت فجأة.
لماذا الصلاة؟ هل الشيطان وحده هو السبب؟ أم أن السبب أعمق من ذلك؟ ربما لأن يومنا كلّه ضجيج، أصوات، رسائل، مطالب، أحاديث لا تنتهي… فلا لحظة صفاء فيه. وحين نقف أخيرًا في الصلاة، حيث يُفترض أن نسكن، ينهار الصمت على رؤوسنا، فتتدفق منه كل الأسئلة المؤجّلة، كل الذكريات المخزونة، كل القلق غير المعالج. ولعلّ هذا أحد أعظم أسرار الغياب عن الخشوع لأننا لا نعرف الصمت إلا فيها. ولو أننا اعتدنا على التفكّر، على محادثة النفس في وضح النهار، على لحظاتٍ ننسحب فيها من فوضى العالم إلى عمقنا الداخلي… لربما دخلنا الصلاة بأرواحٍ أقل توترًا، وعقولٍ أكثر استعدادًا للسكينة. فالتفكّر، يا عزيزي، ليس رفاهية… بل ضرورة للوعي، وللعبادة، وللنجاة من أن نعيش حياتنا كنسخٍ محفوظة من غيرنا.
الوعي هو القدرة على التمييز: أن تعرف متى تقول نعم وأنت تعنيها، ومتى تقول لا دون أن ترتجف. أن تخلع قناعًا دون أن تخشى ملامحك تحته، أن تمشي عاريَ الوجه في عالمنا هذا الذي يتقن ويدعم صناعة الأقنعة. وهنا، فقط هنا، تبدأ حريتك الحقيقية. حين تُصبح أنت من يعيد برمجة نفسه، لا كما أرادوا، بل كما تستحق وكما يكون الصحيح.
إعلم ياعزيزي ان الإختلاف له ثمن، فحين لم يستطيع القطيع أن يروك كما أنت، سيحاولوا تشويهك حتى يُريحوا أنفسهم. فما أن عجزوا عن مواجهة أخطائهم، حتى صنعوا منك شيطانًا، ليُعلّقوا عليك خطاياهم دون أن يشعروا بالذنب. خافوا من انعكاس ضمائرهم في صدقك، فوصموك بالبرود، والشك، والتخلف. داسوا على مشاعرك العميقة، ثم قالوا عنك إنك مُفرِط، حساس، درامي، هكذا يفعل بعض الناس حين يُواجهون اصالة لا يتمكنون من عيشها، يتهمونك بما يُريحهم، لا بما يُنصفك. لا لأنك سيئ بالطبع فالكل سيء في رواية احدهم، بل لأنك مختلف، ولأن اختلافك يُربك الزيف الذي تأقلموا معه. لكن لا تجزع فمن عرف نفسه، لم تهزه أحكام العابرين.
ومن حافظ على اصالته، لم يلوثه تقليد السطحيين. ابقَ كما أنت ياعزيزي، واضحًا، نقيًا، ولو وُصِفت بالجنون. فالنقاء في عالمنا هذا الذي يقدس الأقنعة هو أعلى درجات الشجاعة.وتذكر دائماً بأن الحُرُّ يأبَى أن يَكونَ مُقيداً والصَّقـرُ يأنَفُ ذِلَّةَ الخِرفانِ.
لا تنسى تعليقك، اقتراحاتك، تجربتك، أو أي شيء تود مشاركته معنا، فكل كلمة منك تزيدنا ثراءً ووعيًا.
مقال اختصر الكثير من الكلام. بالفعل اصبح العديد في هذه الأيام وللأسف الشديد يسيرون خلف القطيع بدون تفكير ولا مراجعة لأنفسهم بأن هالشي صح أم غلط لفعله
وأصبح الاختلاف جريمة لمن لا يستطيع التحلي بها فعلا.
نص يربّت على كتف القارئ لا ليعلمه، بل ليوقظه. يجعلنا نعيد النظر في علاقتنا مع أنفسنا، مع خياراتنا، ومع صمتنا.
وإن كانت الأصالة تُكتَب، فقد كُتبت في هذا النص.
وإن كان الفكر يُصاغ جمالًا، فقد صيغ هنا