نحنُ لا نَرَى الأشياءَ كما هي، بل نَرَاهَا كما نَحنُ
والذي نفسُهُ بغيرِ جمالٍ، لا يرى في الوجودِ شيئًا جميلا
إذا اقترنت الهمّةُ بنقاء السريرة، علت بدنيا صاحبها كما تعلو النسورُ فوق القمم، لا تعيقها اي وحل في الأرض، ولا تغويها أضواء السراب. فالنقاءُ يُسرّع الخطى، ويهدي العزمَ إلى سواء السبيل، ويحفظه من الذلّ إذا تهافت الناسُ على الفتات. لذلك، اجعل همّتك في ذرى المعالي، ونقاءك سيفًا ودرعًا؛ تكن في الناس عزيزًا مهابًا، وفي داخلك ساكن الطمأنينة. فإنما تُقاسُ العزائمُ لا بكثرتها، بل بصفاء منبعها، ولا تُوزن النفوس بما تملك، بل بما تتنزّه عنه. فالعبرة ليست في أن تنهض، بل في أن تنهض خفيفَ الحمل، صافِيَ النيّة، لا تحمل من شوائب الدنيا إلا ما يعينك على المضيّ.
فهناك، في الأعالي، لا يصلُ إلا من خَفَّتْ روحه وثقُلَ ميزانه. واحذر أن تتعلّق الهمّةُ بما لا يليق، فإنّ النفوس العظيمة تأنفُ من الدنايا، ولا تنحدر إلى حيث تتكالب الأرواحُ على المتاع الزائل. واعلم أن من رام العلوّ، فليطهّر قلبه أولًا، فإنّ الطريق إلى القمم لا يُعبَّد بالأماني، بل يُشقُّ بصدق النية والثبات. وما النقاءُ ضعفًا كما يظنه الجاهلون، بل هو القوّة التي لا تُقهر، والسلاح الذي لا يصدأ. فاصغِ إلى نداء الحقّ فيك، وكن وفيًّا لهمّتك كما تكون الأرض وفيّة لبذورها، تُخفيها حينًا، ثم تُخرجها زهرًا نديًّا حين يحين أوانها. ولا تستعجل الثمار، فمن سار على سنن النقاء والرفعة، كان له الزمن خادمًا، لا خصمًا.
وإن تأخّر المجد، فإنه لا يخطئ عنوانه إذا وُجد الصبر والصدق والطهارة. واعلمّ ان مَن ينالُ الحياةَ الطيّبة مَن كان طيّب القلب، نقيّ السريرة، لا يحمل في صدره حقدًا ولا حسدًا، ولا يُقيم وزناً للضغينة، بل يمضي في دنياه متخفّفًا من الأحقاد، متجردًا من المقارنات. يتمنّى للناس ما يتمناه لنفسه، ويرى في اتّساع الأرزاق ما يكفي الجميع، وفي تنوّع الأقدار رحمةً لا ظلماً. أتحدث عن ذاك الذي يؤمن بأن الخير لا ينفد، وأن أبواب الرزق لا تنغلق إلا على من أصرّ أن يطرقها بكفّ الحسد أو عين السخط. أتحدث عن من يعيشُ في سلامٍ مع الناس، لأنّه صادقٌ في سلامه مع نفسه، فيُضيء السلامُ جوانبه، وتُورِق الطمأنينةُ في دروبه.
لا يلتفت لمن سَبَق، ولا يحقد على من ظَفِر وَ سَبَقّ، لأنه يعلم أن لكلٍّ طريقه، وأن التأخير ليس حرمانًا، بل إعدادٌ لما هو أبهى. يُبارك النجاحات، ويمسح على الجراح بالصبر، ويغرس في أرض قلبه بذور الرضا، فيجني سكينةً لا تشتريها هذه الدنيا، ولا تُمنح إلا لمن صدق قلبه قبل لسانه. وتلك هي الطمأنينة الحقة: ألا يُثقلك الغِلّ، ولا يشوّه بصيرتك الكُره، ولا يأكل قلبك الحسد. فالحياة الطيبة ليست ما تملك، بل ما تحمله فيك. وإن في صفاء القلب ما يُنبت سعادةً لا تُفسّر، وخيرًا لا يُحصى. هنا ياعزيزي تَطيبُ الدنيا لكْ.
إعلم، يا عزيزي، أن الحياة كثيرًا ما تُشبه أقوالك؛ تعكس لك ما تُضمر، وتُريك ما تُؤمن به. فإن ضاق بصرك، ضاقت عليك الدنيا، وإن اتسع قلبك، اتّسعت لك الأقدار. إن قلتَ: "لا خير في هذه الدنيا" كما يقول الكثيرون، أغلقتَ على نفسك أبواب الخير. وإن زعمتَ أنها ظالمة، سار إليك الظلم من كل وجه. فالكون يُصغي لما تقول، ويتشكّل بما تعتقد. كما قالت العرب قديماً "الأقدار موكولةٌ ينطقها". نعم، هي ليست دائمًا عادلة، نعم صحيح، وليست دومًا سهلة، ولكنها تُظهر لك وجهها الذي تُريد أنت أن تراه. إن زرعت فيها أملًا، أزهرت رجاءً، وإن ملأتها شكوى، أثمرت خيبة. فكن حريصًا على نَظرتك، لأنها المفتاح، والنية لأنها البوصلة، والإيمان لأنه الوقود.
وَاعلَم أنَّ في البيتِ الواحد، بل في العائلةِ ذاتِها، قد ينشأُ إخوةٌ يتقاسمونَ اللقمةَ، ويشربونَ من ذاتِ الكأس، وربما ناموا على نفسِ الفراش، ومع ذلك، ترى أحدهم يختنقُ من فرطِ الضيق، تثقله الحياة حتى يُفكر في إنهائها، بينما الآخرُ يرى في ذاتِ الأيامِ نعمةً تُستحق الشكر، وفي كلّ عثرةٍ درسًا، وفي كلّ وجعٍ بذرة نضجٍ. فالمُشكلةُ لم تكن يومًا في الظرف، بل في العُين التي ترى، وفي القلبِ الذي يستقبل. فقد يتساوى الظرف، لكنّ الرؤية تختلف، والوعي يصنع الفارق. تلك هي العدسة الداخلية يا عزيزي، تلك التي إمّا أن تُكبّر لك السواد وتُخيفك حتى من ظلك، أو تُريك في عتمة الليل نجمةً واحدة تكفيك لتنهض.
فطوبى لمن زيّن دنياه ببصيرة، وعرف أن ما يُغرق أحدهم، قد يكون لسواه ماء نجاة. فلا تنتظر أن تبتسم لك الأيام إن كنت تُكفهرّ لها كل صباح، ولا تطلب منها وردًا إن كنت لا تُؤمن بوجود الحدائق من الأساس. ارفع بصرك، واسعَ بقلبٍ يوقن أن في كل محنةٍ منحة، وفي كل ضيق مخرجًا، وأن الخير لا يغيب، لكنه يُحب من يبحث عنه بنظرة صافية ونفس راضية. واعلم ايضاً ياعزيزي أنه لا يطُولُ الطَّريقُ على مُحب حَملَهُ قلبُه، فالكثير من الناس يهوى التشكي والكثير من الناس يرى الدنيا سوداء، ويظل يراها هكذا حتى تتسود وجوه الناس امامه ومن ثم الدنيا ومن ثم الآخرة، وهذه ليست مشكلة العالم ولا الناس بل مشكلتك انت وحدك، أنت رضخت، وهذه كانت سقطتك الكبرى لأنك أوهمت نفسك بأنك خُلقت لتتألم أكثر من سواك.
سَلَّمت لفكرة أنك "مُهيأ للعذاب"، كأن الحزن حقٌّ مكتوب بإسمك وحدك، وكأنك وُلدت لتدفع ضريبةً لا نهاية لها. تقبّلت الألم كجزء من هويتك، ورفضت أن تنزع عنك عباءته، لأنك أقنعت نفسك أن الخلاص لا يشبهك. وهذا، يا عزيزي ليس قَدرًا وليس حال الدنيا بأكملها، بل استسلام انت غلفته بالحكمة الزائفة. لا أحد يُعاني أكثر لأنه "أرقّ" او لأنه “طيب”، هذه رومانسيات ممجوجة أنت هيأتها لعقلك. الألم يُقيم فينا حين نُوسّع له البيت ونترك له الأبواب مشرعة. ولا يكثر إلا حين نقلّل من قيمة نجاتنا، ونتقاعس عن دفعه بأظافر الإرادة والإيمان. استفق ياعزيزي، فليس النُبل في الصبر على ما يمكن زواله، بل في السعي لاقتلاعه من الجذر وأن تنظر إلى الدنيا نظرة طيبة مثل قلبك. لا تُلبس وجعك ثوب القدر، ولا تُربّت على جرحك وتُسمّيه ضريبة الخلق الحسن. ما لا تُواجهه سيبقى، وما لا ترفضه سيتمادى. اصنع لنفسك خلاصًا، ولو من شقّ نافذة في جدار معتم، وتذكّر لا أحد يخرج من الألم إلا حين يقرّر أنه لا يستحق أن يبقى فيه.
كان جليًّا أن الهموم لا تُفرّق بين الناس؛ فالجميع يرزح تحت وطأتها، وإن اختلفت أشكالها وتفاصيلها. غير أن الفارق الحقيقي لا يكمن في حجم الهمّ، بل في الطريقة التي نحمله بها. فثمة من يحتضنه بصبرٍ نبيّل خالص من الشوائب، وآخر يرزح تحته بضيقٍ يُضاعف ثقله، يسمع موسيقى حزينة لتتناغم مع المه بل وتزيده، الألم مشترك لكلاهما، لكن الاستجابة له فرديّة تمامًا؛ فمن الناس من يصنع من حزنه درعًا يُحصّنه، ومنهم من يجعل منه سجنًا لا جدران له. وهكذا تمضي الحياة، لا تميّز في بلائها، بل تفضح فينا ما نحن عليه: صبرُ البعض يُنجيه وتجعل الدنيا تحت أقدامه، وجزعُ البعض يُورث سخطًا وتجعل الدنيا أكبر همه.
والسرّ لا في اختفاء الهمّ وعدمية البلاء، بل في طريقة استقباله. منهم من يبتسم رغم الانكسار، ومنهم من يُعلن الهزيمة مع أول عثرة، تراه بكى الليل والنهار، إشتكى لكل من قابله في طريقه، تكلم عن حزنه في كل دقيقة حتى تشكل الحزن من هويته. فاختر كيف تكون، ممن يُثقل العالم بحزنه، أم ممن يُضيء للناس الطريق رغم عتمته؟
إعلم أيضاً ياعزيزي انك خدعت نفسك حين ظننت أن الحياة يجب أن تكون سهلة أو عادلة. فلا شيء في هذا العالم يُمنح بضمان، ولا قانون كوني يقول إن السعادة حقّ مكتسب للجميع. الحياة، في حقيقتها، أقرب إلى ساحة اختبار منها إلى نزهة. معاناة، فَقْد، تَغيُر، خيبات، صعود وهبوط هذا هو النمط الطبيعي، لا الاستثناء. الذين يفهمون هذه القاعدة لا يتعثرون للأبد حين يضربهم الواقع، لأنهم لم يبنوا أحلامهم على أرض ورديّة ولم يندهشوا من الألم، بل وضعوه في مكانه الطبيعي ضمن مسار النموّ الطبيعي. علموا أن الحياة لا تُدار بمنطق العدالة، بل بمنطق الحقيقة، وما الحقيقة سوى أن العالم حيث تراه انت، فالعاقل لا يُفاوض الواقع، بل يفهمه، ويُحسن التكيّف معه ويكيف نظرته معه.
لا يطارد وهم العدالة مع كل الم ولا يشتكي من كل صغيرة، بل يسعى إلى تحسين نظرته للدنيا؛ لا يطلب من الأيام أن تكون لطيفة، بل يُدرّب نفسه على التكيف، على التحمل، على الصبر، ففي النهاية، عدو الإنسان ليس الألم، ولا التعب، ولا الخذلان بل توقّعاته ونفسه والصورة التي رسمها عقله عن نفسه. توقعاته هي التي ترسم له صورة مثالية للحياة، ثم تقوده للانهيار حين لا تنطبق الصورة على الحقيقة. حرّر نفسك من أوهام الاستحقاق، وابدأ في العيش كما يعيش الأقوياء والحكماء بثلاث صفات رئيسة: بوعي، ومرونة، وقبول. فالحياة لا تُعطي لأنها عادلة، بل لأنها تختبر، وتُعلّم، وتصقل، ثم يأتي منظورك لها.
إعلم ياعزيزي أن رؤيتك النفسية والذهنية لدنيتك ليست مجرّد منظار، بل هي أشبه مايكون بما نسميه اليوم “فلتر” قادر على أن يُصفّي كل ما تمرّ به من تجارب ومواقف. فقط من خلالها تختار كيف ترى العالم، وكيف تتفاعل معه. لو كنت تنظر إلى الحياة من زاوية واحدة فقط وهي زاوية الألم، يصبح كل شيء ثقيلًا، حتى أبسط التفاصيل تتحوّل إلى أعباء تُثقل كاهلك ومن ثم رأسك ومن ثم قلبك حتى تُصبح انت نفسك مثقلاً بما فيه الكفاية. ولو كانت نظرتك مسكونة بالعجز، ستبدو أمامك كل خطوة صغيرة مستحيلة، وكأن الأرض التي تمشي عليها تتحول إلى صحراء قاحلة لا تنبت فيها فرص.
أما إن حملت في زاويتك نقطة أمل ولو صغيرة، فإن حتى أصعب المواقف تتبدّل إلى تحدٍّ يمكن مواجهته، وإلى دربٍ يُفتح مع كل خطوة. أرجو منك ان تصدقني ياعزيزي حينما اقول لك أن الإنسان لا يرى الأشياء كما هي، بل يراها كما هوَ. وما أقصده هنا أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من تغيير نظرتك أنت قبل أن تنتظر أن تتغير الظروف. حاول أن تُعيد ضبط زاويتك النفسية والذهنية، وأن تنقي الفلتر الذي يرى الواقع. فحين ترفع رأسك، وترى الحياة من زاوية أوسع، تسمح لنفسك بأن ترى الفرص، وأن تصنع من التحديات جسورًا، لا حواجز. نظرتك الضيقة قد تعيقك على رؤية ماهو أوسع.
وأنت ياعزيزي، يا من أحسبك تحيا على حُلُمٍ جميل،حُلمٍ يشبه أولئك الذين صقلوا أنفسهم كالصُلب، بنوا ذواتهم على مهل، بالأمل، بالتعب، وبالوعي. كانت أحلامهم أوسع من حدود الواقع، وتفكيرهم أَجْود كأنهم غاصوا في حياةٍ داخلها ألف حياة، أنت يامن جعلتك الدنيا كشيخاً مسناً و أَبَيْتَ الا ان تكون فتى ً قوياً شامخاً عالِ كالجبل، وأنت، يا من تقرأ الآن، هل تحلم أن تكون واحدًا منهم أو ربما أكثر بقليل؟ هل يلحّ في ذهنك سؤالٌ واحد: كيف بدأوا؟ كيف خطّوا أولى خطواتهم؟كيف تحوّلت أفكارهم إلى واقع، وأحلامهم، التي ربما وُلدت على ورقة بيضاء، إلى إنجازات تقف شامخة على أرصفة الحياة بكل كبرياء! فاعلم ان هذه ليست قصصًا تُروى فقط، بل دروسٌ صُقلت في الصبر والعمل، في المضي بدلاً من التعب، في تحويل الشغف إلى فعل، وفي معرفة ان الحياة الهنئة ليس حكرًا على من رُزقوا بمال الدنيا وثمارها فحسب، بل على مُثابرين ومؤمنين.
فأول خطوة تبدأها مع نفسك، حين تُقرّر أن تنهض، أن تخطو، أن تخاطر، أن تتعلم من السقوط، ان تنظر للعالم نظرة الأسد الذي سيأكل فريسته بدلاً من تقمُصك لدور الضحية مكسورة الجناح، أن تستثمر في نفسك، وأن تصنع من كل عقبة جسرًا يصقل عقلك، لا تنتظر أن يُهديك القدر ما تريد، بل كن أنت صانع قدرك بعد الله، وحامِل شعلة أحلامك، لتُضيء طريقك بيدك، وتصل حيث لم يصل كثيرون. كن ياعزيزي كمن قال ذات يومٍ: هذا أنا، لا تخلُوني معركة، ستجدونني أقاتل، ولو كان حطام قلبي سلاحي، ثم ألتقط أشلاء أحلامي المتكسرة، وأقول لنفسي: لا بأس، والبأس كله في قلبي، لكن ايقن ان قلبي هو مملكتي، وبين أنقاضه تُولد عزيمتي من جديد. لا أستسلم، ولا أرتاح، فكل جرح هو درس، وكل سقوط هو فرصة، أنا الذي لا يعرف الهزيمة، بل يعرف كيف ينهض رغم الألم، كيف يصنع من الحطام جسراً إلى النور. فلتأتِ العواصف، ولتتعالى الرياح، أنا هنا، صامدٌ، لا يكسرني إلا استسلامي لنفسي، وحتى ذلك، لن يكون اليوم إلا أنا احارب نفسي بنفسي وهذا أنا، هذا أنا الذي بلغتُ من التفاؤل أوجه، وقليلون من يرافقونني في هذه الدروبِ، حتى تفاعيل البحور قرأتها، متفائلٌ، متفائلٌ، متفائلُ. هذا أنا وهذا شعاري، وهذه قوتي، وهذا ديني، فلا شيء يمحو نور الأملِ من روحي، ولا موجة تُغرق سفينتي، ما دمتُ أبحر في بحور التفاؤلِ بلا خوفٍ، بلا ترددِ. هذا ما أحسبك عليه دوماً ياعزيزي..
قرأته بدون توقف وكأن هالمقال موجه لي شكرا جدآ
الأسلوب في سرد التفاصيل وترتيب الأفكار وتسلسلها وتناول الموضوع بشكل ايجابي يبعث في القارئ روح التفاؤل والراحه لتكملة القراءة
رائع جداً
الله يبارك لك