العتبُ في الحب ليس تقريعًا، بل لمسة حنانٍ تخفي وراءها خوف الفقد. لا يُعاتب القلبُ إلا من أودع فيه الودّ، ولا يُرمَّم الخراب إلا إذا بقي في الجدار شوقٌ لعودة الساكنين. فالعتب لغة القلوب التي لا تزال تأمل، ولكنه إن زاد عن حدّه، انقلب إلى وجعٍ يُنهك الروح ويطفئ بهجة الوجود. المكانة لا تُقاس بعدد المرات التي نعاتب فيها، بل بمقدار ما نُعفى فيه من العتاب. فمن يعرف قدرك، لا يُكرّر أذاه، ولا يستهين بجُرحٍ فتحه مرارًا ثم عاد يعتذر ببرود. العتاب ليس فرصةً دائمة لتصحيح الخطأ، بل هو اختبار لصِدق النيّة، ومرآة تعكس من يستحق البقاء. كما يقول أهل نجد: "الطيب ما يثقل الحمل، لكن الردي يهدّ الحيل." فالمحب الأصيل يعتذر قبل أن يُطلب منه، ويراجع نفسه قبل أن تُرفع عليه الشكوى. لأن العلاقة لا تُبنى على كَثرة التبرير، بل على قَلة التقصير، ولا تزدهر باللوم المتكرر، بل بالاهتمام العفوي الذي لا يُنسى. وقد نظن أن الصبر مفتاح لكل قلب، فنغفر مرّة، ونتجاوز مرّات، نُعوّل على الطبع الطيّب، ونُبرّر السهو بالانشغال. لكن الحقيقة تَظهر حين يتكرّر الخطأ بلا ندم، ويغيب الحضور عند الحاجة.
وكما يُقال: "اللي ما يعوّدك على الصفا، لا تعوّده على الوفا." فليس كل من أحببناه، قدّر ذلك الحب. وإن وجدت نفسك تعتذر عن وجعٍ لم تتسبّب فيه، وتُلملم ما كسره غيرك، فاعلم أن الكرامة لا تقبل المقايضة، ولا تُباع في أسواق العتاب المستمر. وكما تقول حكمة أهل نجد: "ما يداوي الجرح كثرة التربيت عليه." فالتكرار لا يشفي، بل يُمزّق ما بقي من صبر. من أحبك حقًا، سيفهمك دون شرح، وسيخشى على حزنك أكثر من خوفه على صورته في عينيك. سيراعي شعورك قبل أن يخطو نحوك. فكما يُقال: "اللي يحبك، يحسب لخطاك قبل خطاه." أما من أجهدك باللوم، وتناسى وجودك وقت حاجتك، فمكانه خلف ظهرك، لأن النفس إن أُهينت، تفقد بريقها، وإن اعتادت العتاب، خَسرت صفاءها. فلا تكن كريمًا في التبرير، وشحيحًا في التقدير لذاتك. لأن المحبّة لا تُقاس بعدد الرسائل التي تُرسل، بل بعدد المرات التي لم تُضطر فيها للشرح. اجعل كرامتك حدًا لا يُتجاوَز، فإن راحة النفس أولى من أي علاقة، والطمأنينة أثمن من انتظار لا ينتهي.
ومع ذلك، فإن الكرامة لا تعني الجفاء، ولا يعني الحفاظ على النفس أن نُقصي كل من أخطأ. فالثقل الحقيقي في الشخصية لا يكون في القطيعة السريعة، بل في القدرة على التمييز بين من زلّ عن غير قصد، ومن استقرّ على الإهمال كعادة. لا تنهِ علاقاتك لمجرد كلمة عابرة أو تصرف خاطئ في لحظة انفعال، فالقلوب تُختبر في الامتداد لا في العثرة العابرة، والإنسان كائن يتقلب فيه المزاج والوعي والشعور. الشخصية الثقيلة ليست في التشدّد، بل في الصبر على فهم ما خفي من الدوافع، والنظر إلى النية خلف الفعل، لا إلى الفعل وحده. الثقل هو أن تزن الأمور بميزان الحكمة، أن تعرف متى تصمت احترامًا، ومتى تعاتب بحب، ومتى تتجاوز حفاظًا على ما هو أثمن من الغضب. أن تملك القدرة على منح فرصة ثانية، لا لأنك ضعيف، بل لأنك قوي بما يكفي لتفهم أن العلاقات المتينة تمرّ بالمحن ولا تنكسر. العلاقات التي تستحق، لا تُهدم لأجل لحظة توتر أو زلة عابرة. هي تلك التي تُرمم بالنية الطيبة، وتُغذى بالحوار، وتُروى بالتقدير. فالنضج لا يعني أن تَقبل كل شيء، بل أن تُميّز ما يستحق أن يُعطى وقتًا آخر، وصبرًا آخر، ومحاولة أخيرة. ومن تمام النُبل ألا تحاكم أحدًا على سقطة لم تكن من طبعه، وألا تُقصي من كان في قلبك لمجرد خطأ لحظي. إنّ ما يجعل الإنسان ناضجًا حقًا، ليس شدّة الرد، بل سعة الصدر. فالثقل ليس في أن تهرب من أول اختلاف، بل أن تبقى حاضرًا بما يكفي لتُعيد البناء إن كان هناك ما يستحق. وإن كنت لا بدّ أن تُفارق، فافعل ذلك بهدوء من يعرف قيمته، لا بغضب من نسي نفسه. فالكرامة تظلّ الحد، لكن النُبل هو الطريق إليه واعلم ان العقل يأمرك بالأنفع دائماً والمرؤة تأمرك بالأرفع دائماً.
ومع كل ما قيل عن حدود العتاب وميزان الكرامة، وعن ضرورة النضج في لحظات التباين، يبقى هناك يقين راسخ في داخلي لا يتزحزح: أن الإنسان الطيب، الصادق في جوهره، الذي نبت من تربة الفطرة السليمة وسُقي بماء المروءة، لا يمكن أن يكون سيئًا لا طبعًا ولا نية. هو ابن النقاء، حتى إن جار عليه الزمن، وحتى إن كبا في لحظة غفلة أو ضياع، فإن في داخله بوصلة لا تخطئ الاتجاه، وصوتًا خفيًا لا يهدأ حتى يُعيده إلى نفسه. ذلك الإنسان، إن حاول أن يُسيء، خانه قلبه قبل أن يخطو؛ وإن جرّب أن يتجاهل، غلبته رقّته؛ وإن فكر أن يتلوّن، كشفت وجهه ملامح النقاء. لا يتقن لعب الأدوار، ولا يليق به الاصطناع، لأن الطيبة تسكن عينيه قبل أن ينطق لسانه.
هو الذي يُضيء الأمكنة بحضوره دون أن يرفع صوته، ويترك أثرًا دون أن يطلب اعترافًا. هؤلاء، لا تُقاس قيمتهم بالمواقف العابرة، بل بالاتساق الذي يسكنهم، بالصدق الذي يسري فيهم، وبالسكينة التي يزرعونها في من حولهم. وفي علاقتك بهؤلاء، لا تكن سريع الحكم، ولا قاسي القلب. لأن من يملك هذا النُبل الفِطري، قد يضعف، نعم، لكنه لا ينقلب. قد يخطئ، لكنه لا يتلوث. فليس من العدل أن تُساوي بين من جرحك وهو لا يشعر، ومن تعمّد الكسر. الثقل في الشخصية أيضًا هو أن تعرف الفرق، وأن تُمسك بلحظة الصفاء حين تُطلّ، لأن بعض الأرواح تستحق أن تُحتَضن حتى في ضعفها، لا أن تُقصى في لحظة هفوة. فالعلاقات لا تُبنى فقط على الانسجام، بل على الفهم العميق لطبيعة الآخر. ومن يحمل الخير في داخله، مهما تعثر، فإنك ستراه دومًا يعود... يعتذر بصدق، يُصلح دون أن يُطلب منه، ويفهمك دون أن تشرح. ذاك هو الإنسان الذي إن دخل حياتك، فلا تفرّط به، ولا تُحاكمه لحظة، وتنسى عمرًا.
وإن كنت قد وعيتَ قيمة الطيبة، وأدركت الفرق بين الزلة والطبع، وبنيت نضجك على التفهم لا على العجلة، فإن أسمى مراتب الوعي هي أن تُحسن صيانة نفسك، لا من الآخرين فقط، بل من الانزلاق إلى ما لا يليق بك. وهنا تمامًا، تتجلى كلمات البحتري حين قال: "صُنتُ نفسي عما يُدنّس نفسي وترفعتُ عن جِدالٍ كُلّ جَبْسِ" إنها ليست مجرد أبيات من شعر، بل مرآة لمن وصل إلى طمأنينة النفس، تلك التي لا تُستثار بكل عابر، ولا تُستدرج لكل نقاش، ولا تُستهلك في كل معركة لا تستحق. فأن تصون نفسك، لا يعني أن تنسحب، بل أن تختار أين تُنفق طاقتك، وأين تزرع كرامتك. أن تترفّع، لا كبرياءً، بل احترامًا لذاتك التي عرفت قيمتها. حين ترفض أن تُقحم نفسك في جدال لا يثمر، أو مجاراة من لا يملكون لغة الاحترام، فأنت لا تهرب من المواجهة، بل تمارس شكلاً نبيلاً من أشكال السلام الداخلي. فكما أن الطيب لا يؤذي، فإن الناضج لا يتدنى. وكما أن من يحمل النقاء لا يطيق القاع، فإن من أدرك ذاته، لا يُفرّط بها لأجل لحظة انتصار زائف أو ردّ فعل غاضب. وفي علم النفس، هذه القدرة على الحفاظ على المسافة الآمنة بينك وبين ما يؤذيك – سواء بالكلام أو بالمواقف – تُسمى الوعي بالحدود الشخصية. هي تعبير صامت عن عمقك الداخلي، عن ثقة لا تحتاج إلى صراخ، وعن كرامة لا تنتظر تصفيقًا. أنت تعرف من تكون، وهذا وحده يكفي لأن تترفع دون أن تُثبت شيئًا لأحد. ففي نهاية المطاف، لا أحد يحفظك كما تفعل أنت مع نفسك. لا أحد يصون نقاءك إلا قرارك بالبقاء على الضفاف الهادئة، بعيدًا عن صخب لا يضيف لك، وعن حوارات تُهدر المعنى. وكل مرة تختار فيها نفسك، تختار السلام.
وبعد أن تبلغ من النضج ما يجعلك تترفّع عن الصغائر، وتُدرك حدود ذاتك، وتختار أين تضع عتابك وأين تُقيم صمتك، تأتي المرحلة الأهم: أن تُحسن انتقاء الأماكن التي تنتمي إليها، والأرواح التي تُجاورها. لا تجالس من يُطفئ نورك باسم المزاح، ولا تتحدث بلسانٍ لا يشبهك، فالأصالة لا تُساوم، والروح لا تُقحم نفسها في ما لا يُشبه نبضها. بعض البيئات، كالأرض الجافة، لا تزهر فيها حتى أجمل البذور، ليس لأن البذور سيئة، بل لأن الأرض نفسها لا تُنبت. ولذلك، لا تُفرّط بشُعلة الشغف داخلك، ولا تسمح للقلوب الباهتة أن تطفئ حرارة ما تؤمن به. هناك أفواه كثيرة تتحدث، ولكن القليل منها يُشعل، يُلهم، يُحيي فيك الحلم. لا تنزل لما لا يليق بك، فقط لأنك تحب بعمق أو لأنك طيب السريرة. فالكرم لا يكون في التفريط بمكانتك، والرُقي لا يُقاس بمدى قدرتك على الاحتمال، بل بمدى وضوحك في رسم الحدود. ارسم لنفسك إطارًا من الاتزان، لا يُكسر تحت ضغط العاطفة، ولا يلين تحت وهم المجاملة. ارتقِ بنفسك بهدوء، فبعض الناس لا يستحقون سوى الغياب، وبعض العلاقات لا يليق بها إلا المسافة. ليست كل العاطفة دليل ارتباط، ولا كل القرب يعني الاحتواء. تذكّر دائمًا: من لم يُنبت فيك زهرًا، لا تجعله يقترب من جذورك. النضج ليس فقط أن تصون كرامتك حين تُجرح، بل أن تُبقي روحك في بيئة تُثمر، تُلهم، وتُشبِهك. وكل مرة تختار فيها الصعود على حساب الانحدار، أنت لا تُقصي الآخرين... بل تُنقذ نفسك.